من أسرار التمثيل البلاغي في القرآن الكريم 2024.

إن من يتدبر آيات القرآن الكريم ويمعن النظر في أسلوب التمثيل البلاغي فيه يجد في ذلك الكثير من اللطائف والأسرار التي تحرك المشاعر والأحاسيس وتهز الكيان … ولا أريد أن أطيل في التقديم .
وإذا اردت أمثلة على ذلك فالأمثلة لا تعد ولا تحصى ولكنني الآن أستطيع ان أدعوك لمثال واحد تستطيع أن تتأمل فيه وهو قوله تعالى في تصوير نفرة الكفار من الدعوة الإسلامية ( كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة ) [ المدثر : 50، 51]
شبههم سبحانه وتعالى في إعراضهم ونفورهم عن القرآن بحمر رأت الأسد والرماة ففرت منه .
وهذا من بديع التمثيل فإن القوم من جهلهم بما بعث الله سبحانه رسوله كالحمر فهي لا تعقل شيئا ، فإذا سمعت صوت الأسد أو الرامي نفرت منه أشد النفور وهذا غاية الذم لهؤلاء فإنهم نفروا عن الهدى الذي فيه سعادتهم وحياتهم كنفور الحمر عما يهلكها ويعقرها .
قال ابن القيم : وتحت المستنفرة معنى أبلغ من النافرة فإنها لشدة نفورها قد استنفر بعضها بعضا وحضه على النفور فإن في الاستفعال من الطلب قدرا زائدا على الفعل المجرد فكأنها تواصت بالنفور وتواطأت عليه ومن قرأها بفتح الفاء فالمعنى أن القسورة استنفرها وحملها على النفور ببأسه وشدته .
وعن عكرمة : شبههم في إعراضهم عن القرآن واستماع الذكر والموعظة وشرادهم عنه بحمر جدت في نفارها مما أفزعهم .
واختلف المفسرون في تفسير القسورة في الأية الكريمة على أقوال متعددة :
فقيل : القسورة جماعة الرماة لا واحد له من لفظه .
وقيل : القسورة حبال الصياد .
وقيل : الرجال الأقوياء .
وقيل : الصوت العالي والمفزع .
وقيل : سواد الليل وظلمته .
وقيل غير ذالك .
وقال أبو هريرة : هي الأسد ، وذلك لأن الحمر الوحشية إذا عاينت الأسد هربت فكذلك هؤلاء المشركون إذا سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن هربوا منه ، شبههم بالحمر في البلادة والبله ، وذلك أنه لا يرى مثل نفار حمر الوحش إذا خافت من شيء .
وبالتدبر في صفات الحمر نجد أن في هذا التشبيه :
أولا : مذمة ظاهرة وتهجين لحالهم . كما في قوله : " كمثل ال**** يحمل أسفارا " الجمعة : 5 ،
ثانيا : شهادة عليهم بالبله وقلة العقل .
قال الزمخشري : ولا ترى مثل نفار حمير الوحش واطرادها في العدو إذا رابها رائب ؛ ولذلك كان أكثر تشببهات العرب في وصف الإبل وشدة سيرها بالحمر وعدوها إذا وردت ماء فأحسست عليه بقانص .
أقول : وقد يظن من هو قصير في النظر أنه كان يمكن الاكتفاء في تصوير حالهم بوصفهم بالحمر ، ولكن المراد غير ذلك ، فالمشركون لا يريدون إعمال عقولهم التي أعطاهم إياها ربهم في التدبر في أسرار الكون والوصول إلى معرفة الخالق سبحانه وعبادته وحده ، كما أنهم لا يستجيبون للداعي لهم ، بل كلما عرض عليهم شيئا من دعوته ابتعدوا عنه مسرعين ، وكأن خلفهم وحش كاسر يفزعهم أو أن في أعماقهم شيئا أو في داخل قلوبهم يحثهم على الابتعاد عنه بسرعة لا تتخيل ..
وهذه الحالة لا تكفي لها حالة الحمر ، وإنما تقتضي أن تكون حمراً مستنفرة مدفوعة من نفسها أو غيرها ..
ويزيدك في هذه الصورة وضوحا وجمالا ما يلحقها من تصوير آخر بأسد هصور يطلب فريسة من الحمر الوحشية طعاما لأنيابه ومخالبة القوية والحادة ، ولبطنه الجائع ، فنجد هذه الحمر ـ كما نشاهد في أفلام الافتراس في هذه الأيام ـ تتفرق في كل مكان هائمة على وجهها لا تدري أن تذهب ولا كيف تتصرف مع ما يملئها من الخوف الشديد .
فانظروا إلى هذا عظمة هذا الكتاب المجيد .
أسأل الله تعالى أن ينفعنا بما علمنا وأن يعلمنا ما ينفعنا إنه ولي ذلك والقادر عليه .
المقال من أبحاث الدكتور أحمد عطا عمر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.