قال القرطبي – رحمه الله – في تفسير سورة " الرحمن " – :
هذه السورة و " الأحقاف " و " قل أوحي " دليل على أن الجن مخاطَبون مكلَّفون مأمورون منهيون مثابون معاقبون كالإنس سواء ، مؤمنهم كمؤمنهم ، وكافرهم ككافرهم ، لا فرق بيننا وبينهم في شيء من ذلك .
" تفسير القرطبي " ( 17 / 169 ) .
قال ابن القيم – رحمه الله – :
وبالجملة : فهذا أمر معلوم باضطرار من دين الإسلام ، وهو يستلزم تكليف الجن بشرائع ، ووجوب اتباعهم لهم ، فأما شريعتنا : فأجمع المسلمون على أن محمَّداً صلى الله عليه وسلم بُعث إلى الجن والإنس ، وأنه يجب على الجن طاعته كما يجب على الإنس .
" طريق الهجرتين " ( ص 616 ، 617 ) .
وقال – رحمه الله – أيضاً – :
الصواب الذي عليه جمهور أهل الإسلام : أنهم مأمورون منهيون مكلفون بالشريعة الإسلامية ، وأدلة القرآن والسنَّة على ذلك أكثر من أن تُحصر .
" طريق الهجرتين " ( ص 619 ) .
وقال نجم الدين الطوفي – رحمه الله – :
والدليل على تكليف الجن بالفروع : الإجماع على أن النبي صلى الله عليه وسلم أُرسل بالقرآن الكريم إلى الجن والإنس ، فجميع أوامره ونواهيه متوجهة إلى الجنسين ، وهي مشتملة على الأصول والفروع ، نحو ( آمِنُوا بِالله ) الحديد/ 7 ، ( وأقيموا الصلاة ) البقرة/ 43 ، وقد تضمن هذا الدليل على أن كفار الإنس مخاطبون بها ، وكذلك كفار الجن ؛ لتوجه القرآن بجميع ما فيه إلى مؤمني الجنسين وكفارهم .
" شرح مختصر الروضة " ( 1 / 218 ، 219 ) .
وبه يُعلم أن قراءة القرآن من قبَل الجن لا بدَّ منها لأداء ما أوجبه الله تعالى من تكليف بالصلاة ، وقد قرأ النبي صلى الله عليه وسلم القرآن على طائفة منهم تعليماً لهم ، وهو أمر في استطاعتهم ، وليس هناك ما يدل على استحالته أو المنع منه .
قال ابن حجر الهيتمي – رحمه الله – :
قال السُّبكي : وقد ورد في آثار كثيرة عن السلف أن جمعاً من الجن كانوا يقرؤون القرآن عليهم ويتعلمون العلم ، وبالجملة التكليف شرطه العلم ؛ فما علموه لزمهم ، وما لا فلا . انتهى كلام السبكي .
" الفتاوى الحديثية " ( ص 167 ) .
ثانياً:
قول السائل عن الملائكة الكرام إنهم لا يقرؤون القرآن وإنما يقومون بذِكر الله تعالى ، لا نعلم دليلا عليه ؛ والملائكة خلْق غير مكلَّف تكليفاً يثاب عليه ويُعاقب ، لا بصلاة ولا قراءة قرآن ، لكنهم خُلقوا لتنفيذ أوامر الله تعالى في الكون ، وليَعبدوه تعالى ، وإن تلاوة كلامه تعالى القرآن من العبادة ، فأي شيء يمنع تلاوتهم لكلامه تعالى ، وقد وجدنا اختلافاً بين العلماء في هذا ، فنفى بعضهم قراءة الملائكة للقرآن ولم يمنع منها آخرون .
قال السيوطي – رحمه الله – :
قال ابن الصلاح في " فتاويه " : قراءة القرآن كرامة أكرم الله بها البشر ، فقد ورد أن الملائكة لم يعطوا ذلك وأنها حريصة لذلك على استماعه من الإنس.
" الإتقان في علوم القرآن " ( 1 / 358 ) .
وقد ذكر ابن حجر الهيتمي أن بعض أهل العلم قد اعترض على ابن الصلاح رحمه الله وردَّ عليه قوله ، – وإن كان ظاهر كلامه أنه يوافق ابنَ الصلاح – ، حيث قال :
لكن اعترضه غير واحد ، وساقوا من القرآن والسنَّة ما يعارضه ، ومِن ثَمَّ صرح غير واحد بخلافه .
" الفتاوى الحديثية " ( ص 113 ) .
والذي يظهر : أنه ليس هناك ما يمنع من قراءة الملائكة للقرآن ، وقد ذكر بعض أهل العلم أن معنى قوله تعالى ( والتَّالِيَاتِ ذِكْراً ) أنهم الملائكة ، وهو قول مجاهد والسدي .
ومما يدل على ذلك : نزول جبريل عليه السلام بالقرآن تلاوة له على النبي صلى الله عليه وسلم ، ومدراسته معه كل عام .
وليس قراءتهم له تكليفاً ، ولا لهم عليه أجر كما هو حال الإنس والجن ، لكنه من جملة ما يتقربون به لربهم عز وجل .
1. قال الطبري – رحمه الله – :
وقوله (فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا) يقول: فالقارئات كتاباً .
واختلف أهل التأويل في المعني بذلك ، فقال بعضهم : هم الملائكة .
… عن مجاهد ( فالتاليات ذكرا ) قال : الملائكة .
عن السدي ( فالتاليات ذكرا ) قال : هم الملائكة .
" تفسير الطبري " ( 21 / 8 ، 9 ) .
2. قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي – رحمه الله – :
قوله تعالى ( قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ ) البقرة/ 97 ، ظاهر هذه الآية أن جبريل ألقى القرآنَ في قلب النبي صلى الله عليه وسلم مِن غير سماع قراءة ، ونظيرها في ذلك قوله تعالى ( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ . عَلَى قَلْبِكَ ) الآية الشعراء/ 193 ، 194 ، ولكنه بيَّن في مواضع أُخَر أن معنى ذلك : أن الملَك يقرؤه عليه حتى يسمعه منه ، فتصل معانيه إلى قلبه بعد سماعه ، وذلك هو معنى تنزيله على قلبه ، وذلك كما في قوله تعالى ( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ . إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ . فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ . ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ) القيامة/ 16 – 19 ، وقوله ( وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً ) طه/ 114 .
" أضواء البيان " ( 1 / 42 ) .
والله أعلم