عندما يأتي الحديث عن وسيلة غذائية طبيعية لتقوية بنية العظام وللوقاية من الإصابات بهشاشة العظام وإصابات الكسور الناجمة عنها، وذلك لدى النساء اللاتي بلغن سن اليأس، وكذا الرجال الذين بلغوا «أشدهم» وعموم الناس، فإن هaناك وسيلة غذائية بسيطة ومتوفرة طوال العام، وهي تناول ثمار الخوخ الطازج (plum)، أو الثمار المجففة للخوخ (prune). وثمار فاكهة الخوخ الطازجة، التي يسميها البعض «بُخارى» أو «برقوق» أو «أجاص»، وكذا ثمار الخوخ الجافة، التي يسميها البعض «أراصية»، قد استحوذت على اهتمام الباحثين الطبيين في عدة مجالات صحية. وذلك ضمن ما يعرف في علم التغذية الإكلينيكية بـ«الفاعلية الوظيفية للأطعمة» (functional foods). ولذا فإن ما تطرحه الدراسات الطبية الحديثة يتناول تأثيرات تناول الخوخ على الجوانب الصحية التالية:
وحديثا طرح الباحثون من جامعة ولاية فلوريدا وجامعة ولاية أوكلاهوما دراستهم التي أثبتت فائدة تناول الثمار المجففة للخوخ في تنشيط عمليات بناء العظم وإكسابه المزيد من قوة البنية. وتم نشر هذه الدراسة الأميركية الحديثة في عدد 26 أغسطس (آب) الماضي لـ«المجلة البريطانية للتغذية» (British Journal of Nutrition). وأتى الدعم المالي للدراسة من قبل وزارة الزراعة الأميركية (U.S. Department of Agriculture). وترأس فريق البحث البروفسور بارهام أرجماندي، رئيس قسم علوم التغذية والأطعمة والتمارين الرياضية في كلية علوم الإنسان بجامعة ولاية فلوريدا.
وعلق أرجماندي على نتائج الدراسة بقوله: «طوال مشواري في البحث العلمي قمت باختبار عدد كبير من الفواكه مثل التين والتمر والفراولة وال**يب (raisins)، ولكني لم أجد أيا منها يقارب بأي شكل امتلاك قدرة صناعة تأثيرات إيجابية على قوة بنية العظم، كما هو الحال في ما يمتلكه ويقدمه تناول الثمار المجففة للخوخ. وصحيح أن جميع أنواع الفواكه والخضار لديها قيمة غذائية جيدة ولتناولها تأثيرات صحية إيجابية، ولكن عند الحديث عن صحة العظام فإن ثمار الخوخ بالفعل تستحق الوصف بأنها شيء استثنائي».
وتكون فريق الدراسة من مجموعة باحثين من جامعة ولاية فلوريدا وجامعة ولاية أوكلاهوما. قاموا بمتابعة حالة العظم لدى مجموعتين من النساء اللاتي بلغن سن اليأس من المحيض، وذلك لفترة تجاوزت 12 شهرا. وضمت المجموعة الأولى 55 امرأة طُلب منهن أن يتناولن 100 غرام يوميا من الخوخ المجفف، أي نحو 10 ثمار معتدلة الحجم. بينما طُلب من المجموعة الأخرى، المكونة من 45 امرأة، تناول 100 غرام من شرائح التفاح المجففة. وتم انتقاء التفاح للمقارنة بالخوخ بناء على النتائج العالية الإيجابية للفوائد الصحية المتنوعة لتناول التفاح أو شرائحه المجففة.
كما تم إعطاء جميع أفراد المجموعتين كمية 500 ملليغرام من عنصر الكالسيوم (calcium)، وكمية 400 وحدة دولية من فيتامين دي (vitamin D)، على أن يتناولنهما بشكل يومي كذلك. وبهذا أعطى الباحثون للمشاركات في الدراسة الحاجة اليومية من فيتامين دي ومن الكالسيوم وفق إرشادات التغذية الطبية، وذلك لضمان العدل في تزويد أجسامهن بما تنص عليه إرشادات التغذية الطبية ولمنع أي احتمال لتسبب نقص أي منهما في اختلاف النتائج بعد إتمام الدراسة وبدء عمليات حساب عناصر ونتائج المقارنة.
* تقييم طبي دقيق
* وقبل بدء الدراسة وطوال فترة المتابعة، تم إجراء تحاليل الدم والبول بشكل دوري، وتحديدا كل 3 أشهر. وهي فحوصات في الدم مختصة بنسبة الكالسيوم وفيتامين دي والفسفور وأنزيمات العظام والهرمونات المتعلقة به، ودرجة إخراج الكالسيوم والفسفور في البول.
كما تم قياس «كثافة المعادن في العظم» (bone mineral density) في بدء الدراسة لجميع المشتركات، وبعد انتهاء فترة المتابعة، وذلك باستخدام جهاز «eye-DEX-uh» الخاص بقياس «درجة امتصاص أشعة إكس الثنائية الطاقة» (dual-energy X-ray absorptiometry). وهو الجهاز الذي وصفه الباحثون بأنه الأحدث في تقنية «الفحص الدقيق لكامل الجسم» (whole-body scanning technology). وفي كل مرة كان يتم في المرحلة الأولى تقييم نتيجة الفحص لقوة بنية العظم في عظمة الزند (ulna)، وهي إحدى العظمتين الطويلتين في الساعد (forearm)، ثم تمت مقارنة النتيجة مع نتيجة تقييم كثافة المعادن في عظم فقرات الظهر (spine). أي الحصول على نتيجة قياس كثافة المعادن للعظم لدى كل مشتركة على حدة. وفي المرحلة الثانية تمت المقارنة بين نتائج قياس كثافة المعادن في العظم لدى أفراد مجموعة متناولي الخوخ المجفف مع أفراد مجموعة متناولي شرائح التفاح.
ووجد الباحثون من نتائج هذه المعلومات كلها أن من تناولوا الخوخ المجفف كانت عظامهم تمتلك مقدارا أعلى في درجة قوة كثافة المعادن في نسيج العظم.
* دراسات سابقة
* وعلق البروفسور على النتائج بالقول كنصيحة لعموم الناس: «لا تنتظر إلى حين إصابتك بكسور العظام أو تشخيص إصابتك بهشاشة العظام، عليك القيام بشيء مفيد. وبالإمكان تناول الخوخ المجفف بكمية 10 ثمرات يوميا».
وتأتي الدراسة الأميركية الجديدة في سياق مجموعة دراسات طبية أخرى بحثت في علاقة تناول ثمار الخوخ ببنية العظم. وكان البروفسور أرجماندي قد نشر ضمن عدد ربيع 2001 من مجلة «الرابطة الأميركية للعلاج بالغذاء» (Journal of the American Nutraceutical Association)، نتائج دراسته تأثيرات تناول الخوخ المجفف على درجة تآكل العظام على فئران التجارب التي تم استئصال المبايض عنها (Ovariectomy). وتبين منها أن الخوخ يمنع حصول هذا التآكل في بنية العظم. ثم في عام 2024 نشر في «مجلة صحة المرأة والطب المبني على نوع الجنس» (Journal of Women›s Health and Gender-Based Medicine) دراسته التي تبين له من نتائجها أن تناول ثمار الخوخ المجفف يحسّن من بنية العظم لدى النسوة اللاتي بلغن سن اليأس من المحيض. ثم في عام 2024 نشر في مجلة «سن اليأس» (Menopause) نتائج دراسته عن الدور الإيجابي لتناول الخوخ المجفف على إعادة تصحيح حالة هشاشة العظام لدى الحيوانات. ونشرت في عام 2024 مجلة «العظم» (BONE) نتائج دراسة الدكتور سميث حول الدور الإيجابي والآلية التي تعمل ثمار الخوخ على درء الإصابة بهاشة العظم لدى الرجال. وهناك عدد آخر من الدراسات التي لا مجال للاستطراد في ذكرها.
* الفاعلية الوظيفية للأطعمة
* وتصنف هذه الدراسات ضمن أحد الجوانب المهمة في علم التغذية الإكلينيكية وهي «الفاعلية الوظيفية للأطعمة» (functional foods). و«الفاعلية الوظيفية للأطعمة» مصطلح علمي يرمز إلى أن التأثيرات الصحية الإيجابية لتناول المنتجات الغذائية لا تعتمد فقط على محتواها من الفيتامينات والمعادن والألياف والبروتينات والدهون والسكريات كعناصر غذائية منفصلة، بل القيمة الفعلية لتناولها ناتجة عن «عبوة مزيج» جميع تلك العناصر وبكميات متناسبة في ثمرة من الفاكهة أو الخضار أو الحبوب أو البقول أو الأوراق أو غيرها من أجزاء النباتات المأكولة.
وفي جانب بنية العظم، ليس المهم فقط مجرد الحرص على تناول الأطعمة الغنية بالكالسيوم وبفيتامين «دي»، بل هناك عوامل غذائية أخرى مهمة في إتمام عمليات بناء العظم وعمليات الحفاظ على بنيته من هشاشة التآكل أو التفتت.
والإنسان حتى حينما يتناول كميات كافية من الكالسيوم وفيتامين «دي» بصفة يومية، فإن ذلك لا يعني تلقائيا أن الأمعاء ستمتص كل الكمية المتناولة منهما، بل إن ثمة عوامل قد تعوق امتصاص الأمعاء لهما. كما أن توفر الكالسيوم وفيتامين «دي» في الجسم لا يعني تلقائيا حتمية تحقيق بناء أنسجة العظم وترسيب المعادن فيه وخفض وتيرة تآكل العظم وذوبانه، بل ثمة عوامل أخرى يجب توفرها لتحقيق الغاية، وهي تقوية بنية العظم.
* علاقة الخوخ بالعظام
* وعلى الرغم من إثبات كثير من الدراسات الطبية ملاحظة التأثيرات الإيجابية لتناول ثمار الخوخ على بنية العظام، بشكل يفوق أي نوع آخر من المنتجات النباتية، فإنه لا يزال من غير الواضح تماما جانب تفسير وتبرير هذه العلاقة الإيجابية بينهما، وهو ما عرضه الباحثون في الدراسة الأميركية الجديدة خلال مناقشتهم نتائج الدراسة. وبالإضافة إلى محتوى ثمار الخوخ المجفف على كميات جيدة من الكالسيوم، فإن مما يذكره الباحثون الذين قدموا هذه الدراسة والدراسات الطبية السابقة الذكر من تعليلات تتعلق بدور الخوخ في عدة أمور مؤثرة على بناء العظام:
أولا: تخفيف الحموضة في الجسم. ومعلوم أن حموضة الجسم تزيد بفعل إفرازات عمليات الهضم، كما ترتفع نتيجة للتفاعلات الكيميائية – الحيوية ضمن عمليات «الأيض» (****bolism) التي من خلالها تستخدم خلايا الجسم السكريات والبروتينات والدهون في إنتاج الطاقة أو صناعة المواد والمركبات الكيميائية لنموها وكفاءة عملها. وهذا التأثير الإيجابي على الحموضة يسهل امتصاص الأمعاء للكالسيوم ويخفف من عمليات إزالة المعادن من أنسجة العظم، أي عمليات تآكل وتفتيت وإذابة العظم. وغنى ثمار الخوخ، وعموم الفواكه والخضار، بعنصري المغنسيوم والبوتاسيوم له دور في خفض الحموضة.
ثانيا: احتواء ثمار الخوخ على مجموعات من المعادن والفيتامينات و«العناصر الكيميائية النباتية» (phytochemicals)، كلها تعمل بشكل «متضافر» (synergistically) كإنزيمات (enzymes) و«عوامل مساعدة» (co-factors) تُسهم في تنشيط عمليات بناء العظم وخفض وتيرة تآكله وتفتيته. ومنها دور تناول ثمار الخوخ المجفف في ارتفاع نسبة «عامل النمو-1 الشبيه بالأنسولين» (insulin-like growth factor-I) في الجسم، وهو الذي يُنشط عملية بناء العظم. وتحدثت تلك الدراسات عن احتواء الخوخ على مركبات «فينوليك» (phenolic compounds)، ذات الفاعلية الحيوية (bioactive). مثل مركبات «آيزوفلافون» (isoflavones) و«ليغنان» (lignans)، ذات التأثيرات الإيجابية على كتلة العظم. ومثل مركبات «حمض نيوكولينيرجك» (neochlorogenic acid) و«حمض كولينيرجيك» (chlorogenic acid)، اللذان يصنفان ضمن المركبات الكيميائية الأعلى قدرة على امتصاص ومقاومة الأكسدة (oxygen radical absorbance capacity) وفق مقياس «أوراك» (ORAC). وبالتالي حماية خلايا العظم من الجذور الحرة (free radicals) ودرء عمليات تآكله وتفتيته.
ثالثا: احتواء الخوخ على عنصري البورون (boron) والسيلينيوم (selenium)، وكل منهما له دور معروف في التأثير على العمليات الكيميائية الحيوية لبناء العظم وتعامل الجسم مع عنصر الكالسيوم، وبخاصة تقليل إخراج الجهاز البولي للكالسيوم والمغنسيوم، بالإضافة إلى رفع نسبة بعض الهرمونات الجنسية ذات الصلة بالحفاظ على بنية العظم وتعامل الجسم مع الكالسيوم، لدى كبار السن، وبخاصة هرمون التستوستيرون (testosterone) وفئة «17-إسترادول» (17- estradiol).
ولا يزال الأمر يحتاج إلى مزيد من البحث لتفسير هذه التأثيرات الإيجابية للخوخ على سلامة العظام وحمايتها من الهشاشة