تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » معاني العقيدة من خلال فريضة الحج

معاني العقيدة من خلال فريضة الحج 2024.

دراسات شرعية
معاني العقيدة من خلال فريضة الحج
د .عبد العزيز آل عبد اللطيف

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد : ففي الحج معان عظيمة ، وحكم بالغة ، ومنافع كثيرة ، كما قال سبحانه : [ ليشهدوا منافع لهم ][الحج : 28] ، وفي هذه الصفحات نورد جملة من معاني العقيدة ومسائل أصول الدين من خلال هذه الفريضة : أولاً : التسليم والانقياد لشرع الله تعالى : كم نحتاج أخي القارئ إلى ترويض عقولنا ونفوسنا كي تنقاد لشرع الله (تعالى) بكل تسليم وخضوع ، كما قال (سبحانه) : [ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ] [النساء : 65] .
فالحج خير مثال لتحقيق هذا التسليم ، فإنّ تنقل الحجاج بين المشاعر ، وطوافهم حول البيت العتيق ، وتقبيلهم للحجر الأسود ، ورمي الجمار …
وغيره كثير : كل ذلك أمثلة حية لتحقيق هذا الانقياد لشرع الله (تعالى) ، وقبول حكم الله (عز وجل) بكل انشراح صدر ، وطمأنينة قلب .
لقد دعا إبراهيم الخليل وابنه إسماعيل (عليهما الصلاة والسلام) فقالا : [ ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم ][البقرة : 128] .
لقد دعوا لنفسيهما ، وذريتهما بالإسلام ، الأذي حقيقته خضوع القلب وانقياده لربه المتضمن لانقياد الجوارح .
ورضي الله عن الفاروق عمر إذ يقول عن الحجر الأسود : » إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ، ولولا أني رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقبلك ما قبلتك « [1] .
يقول الحافظ ابن حجر : » وفي قول عمر هذا التسليم للشارع في أمور الدين، وحسن الاتباع فيما لم يكشف عن معانيها ، وهو قاعدة عظيمة في اتباع النبي – صلى الله عليه وسلم- فيما يفعله ولو لم يعلم الحكمة فيه « [2] .
ويقول قوام السنة إسماعيل الأصفهاني (رحمه الله) : » ومن مذهب أهل السنة: أن كل ما سمعه المرء من الآثار [3] مما لم يبلغه عقله ، فعليه التسليم والتصديق والتفويض والرضا ، لا يتصرف في شيء منها برأيه وهواه « [4] .
ويقول ابن القيم (رحمه الله) : » إن مبنى العبودية والإيمان بالله وكتبه ورسله على التسليم ، وعدم الأسئلة عن تفاصيل الحكمة في الأوامروالنواهي والشرائع ، ولهذا لم يحك الله (سبحانه) عن أمة نبي صدقت نبيها وآمنت بما جاء ، أنها سألته عن تفاصيل الحكمة فيما ، ونهاها عنه ، وبلغها عن ربها ، بل انقادتْ ، وسلمتْ ، وأذعنت ، وما عرفت من الحكمة عرفته ، وما خفي عنها لم تتوقف في انقيادها وإيمانها واستسلامها بسبب عدم معرفته ، وقد كانت هذه الأمة التي هي أكمل الأمم عقولاً ومعارف وعلوماً لا تسأل نبيها لِمَ أمر الله بذلك ؟ ولِمَ نهى عن ذلك ؟ ولِمَ فعل ذلك ؟ لعلمهم أن ذلك مضاد للإيمان والاستسلام « [5] .
ثانياً : إقامة التوحيد : إن هذه الشعيرة العظيمة قائمة على تجريد التوحيد لله وحده لا شريك له ؛ قال (سبحانه) : [ وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود ][الحج : 26] .
وحذر (سبحانه) من الشرك ونجاسته ، فقال (عز وجل) : [ فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور * حنفاء لله غير مشركين به ][الحج : 3031] .
بل من أجل تحقيق التوحيد لله وحده ، والكفر بالطاغوت ، شُرع للحاج أن يستهل حجه بالتلبية قائلاً : » لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك « .
ومن أجل تحقيق التوحيد شُرع للحاج أن يقرأ في ركعتي الطواف بعد الفاتحة بسورتي الإخلاص (قل هو الله أحد) ، و (قل يا أيها الكافرون) ، كما كان يفعل الرسول -صلى الله عليه وسلم- .
كما شَرعَ الله (تعالى) التهليل عند صعود الصفا والمروة ، فيستحب للحاج والمعتمر أن يستقبل القبلة عند صعوده الصفا والمروة ويحمد الله ويكبره ويقول : » لا إله إلا الله ، والله أكبر ، لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ، يحي ويميت ، وهو على كل شيء قدير ، لا إله إلا الله وحده ، أنجز وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده « .
ومن أجل تحقيق التوحيد أيضاً كان خير دعاء يوم عرفة أن يقال : » لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ، يحي ويميت ، وهو على كل شيء قدير « .
وفي مناسك الحج وشعائره تربيةٌ للأمة على إفراد الله (سبحانه) بالدعاء والسؤال والطلب ، والرغبةإليه ، والاعتماد عليه ، والاستغناء عن الناس ، والتعفف عن سؤالهم ، والافتقار إليهم ؛ فالدعاء مشروع في الطواف والسعي ، وأثناء الوقوف بعرفة ، وعند المشعر الحرام ، وفي مزدلفة ، كما يشرع الدعاءوإطالته بعد الفراغ من رمي الجمرة الصغرى والوسطى في أيام التشريق .
ثالثاً : تعظيم شعائر الله (تعالى) وحرماته : قال الله (تعالى) بعد أن ذكر أحكاماً عن الحج : [ ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه ][الحج : 30] .
والحرمات المقصودة هاهنا أعمال الحج المشار إليها في قوله (تعالى) : [ ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم ][الحج : 29] [6] .
وقال (سبحانه) : [ ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب ] [الحج : 32] ، فتعظيم مناسك الحج عموماً من تقوى القلوب [7] .
وتعظيم شعائر الله (تعالى) يكون بإجلالها بالقلب ومحبتها ، وتكميل العبودية فيها ؛ يقول ابن القيم (رحمه الله) : » وروح العبادة هو الإجلال والمحبة ، فإذا تخلى أحدهما عن الآخر فسدت « [8] .
ورد في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال : » لا تزال هذه الأمة بخير ما عظموا هذه الحرمة [يعني : الكعبة] حق تعظيمها ، فإذا ضيعوا ذلك هلكوا « [9] .
رابعاً : محبة الرسول – صلى الله عليه وسلم – : إن محبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- من أجل أعمال القلوب ، وأفضل شعب الإيمان ، ومحبة الرسول صتوجب متابعته والتزام هديه ، وإن التأسي برسول الله -صلى الله عليه وسلم- أثناء القيام بمناسك الحج سبب في نيل محبته ، حيث قال -صلى الله عليه وسلم- : » خذوا عني مناسككم « ، وفي اتباع النبي -صلى الله عليه وسلم- تحقيق لمحبة الله (تعالى) ؛ كما قال (سبحانه) : [ قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ] ]آل عمران : 31] .
خامساً : تحقيق الولاء بين المؤمنين والبراءة من المشركين : كم هو محزن حقاً تفرق المسلمين شيعاً وأحزاباً .. وتمزقهم إلى دول متعددة ومتناحرة .. وقد غلبتْ عليهم النعرات الجاهلية المختلفة ، وإن فريضة الحج أعظم علاج لهذا التفرق والتشرذم ، فالحج يجمع الشمل ، وينمي الولاء والحب والنصرة بين المؤمنين ، وإذا كان المسلمون يجمعهم مصدر واحد في التلقي الكتاب والسنة وقبلتهم واحدة ، فهم في الحج يزدادون صلة واقتراباً ، حيث يجمعهم لباس واحد ، ومكان واحد ، وزمان واحد ، ويؤدون جميعاً مناسك واحدة .
كما أن في الحج أنواعاً من صور الولاء للمؤمنين : حيث الحج مدرسة لتعليم السخاء والإنفاق ، وبذل المعروف أياً كان ، سواء أكان تعليم جاهل ، أو هداية تائه، أو إطعام جائع ، أو إرواء غليل ، أو مساعدة ملهوف .
وفي المقابل : ففي الحج ترسيخ لعقيدة البراء من المشركين ومخالفتهم ؛ يقول ابن القيم : » استقرت الشريعة على قصد مخالفة المشركين لا سيما في المناسك « [10] .
لقد لبى النبي -صلى الله عليه وسلم- بالتوحيد ، خلافاً للمشركين في تلبيتهم الشركية ، وأفاض من عرفات مخالفاً لقريش حيث كانوا يفيضون من طرف الحرم، كما أفاض من عرفات بعد غروب الشمس مخالفاً أهل الشرك الذين يدفعون قبل غروبها .
ولما كان أهل الشرك يدفعون من المشعر الحرام (مزدلفة) بعد طلوع الشمس ، فخالفهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- ، فدفع قبل أن تطلع الشمس .
وأبطل النبي -صلى الله عليه وسلم- عوائد الجاهلية ورسومها كما في خطبته في حجة الوداع ، حيث قال : » كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع « [11] ؛ يقول ابن تيمية : » وهذا يدخل فيه ما كانوا عليه من العادات والعبادات ، مثل : دعواهم يا لفلان ، ويا لفلان ، ومثل أعيادهم ، وغير ذلك من أمورهم « [12] .
سادساً : تذكر اليوم الآخر واستحضاره : فإن الحاج إذا فارق وطنه وتحمل عناء السفر : فعليه أن يتذكر خروجه من الدنيا بالموت إلى ميقات القيامة وأهوالها .
وإذا لبس المحرم ملابس الإحرام : فعليه أن يتذكر لبس كفنه ، وأنه سيلقى ربه على زي مخالف لزي أهل الدنيا .
وإذا وقف بعرفة : فليتذكر ما يشاهده من ازدحام الخلق وارتفاع أصواتهم واختلاف لغاتهم ، موقف القيامة واجتماع الأمم في ذلك الموطن [13] ؛ قال ابن القيم : فلله ذاك الموقف الأعظم الذي …
كموقف يوم العرض ، بل ذاك أعظم نسأل الله (تعالى) أن يتقبل منا ومن المسلمين صالح الأعمال ، وبالله التوفيق .

________________________
(1) أخرجه البخاري ، كتاب الحج ، باب تقبيل الحجر (2) فتح الباري ، ج3ص463 (3) أي : الآثار الصحيحة (4) الحجةفي بيان المحجة ، ج2 ص435 .
(5) الصواعق المرسلة ، م4 ، ص1560 ، 1561 .
(6) انظر : تفسير ابن عطية ، ج4 ص120 .
(7) انظر : تفسير الطبري ، ج17 ص157 (8) مدارج السالكين ، ج1 ص495 .
(9) أخرجه ابن ماجة : كتاب المناسك ، باب فضل مكة ، وقال الحافظ ابن حجر : إسناده حسن ؛ انظر : فتح الباري ، ج3 ص449 (10) تهذيب سنن أبي داود ، ج3 ص309 .
(11) أخرجه مسلم ، كتاب الحج ، باب حجة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ح/147 .
(12) اقتضاء الصراط المستقيم ، ج1 ص301 .
(13) انظر : مختصر منهاج القاصدين ، ص48 .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.