وصلنا إلى اللحظة التي نتمناها جميعًا، إنها لحظة رؤية ذاك البيت المبارك الذي تتنزل به البركات والرحمات والهداية .. لعله يكون سبب هدايتك بعد سنوات الضياع والضلال .. أرتوي بالحنان والأمــان، فأنت في بيت الرحيــم الرحمــن ..
يقول تعالى {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ، فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}[آل عمران: 96,97]
عن عبد العزيز بن أبي رواد قال: دخل قوم حجاج ومعهم امرأة تقول: أين بيت ربي؟ فيقولون: الساعة ترينه. فلما رأوه قالوا: هذا بيت ربك أما ترينه؟ فخرجت تشتد وتقول: بيت ربي بيت ربي حتى وضعت جبهتها على البيت. فوالله ما رفعت إلا ميتة.
وهنا عليك أن تنتبه لأفعالك وأقولك ..لأنه كما تُضاعف الأعمال في المسجد الحرام، فإن بمجرد الهمَّ بالذنوب هناك تتضاعف السيئات .. يقول تعالى {.. مَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25]
ولقد أمرنا الله عزَّ وجلَّ بالتخلُّق بالأخلاق الحسنة من الحلم وتحمل الأذى من الخَلق وتجنب الجدال في الحج .. نظرًا للزحام الشديد والمشقة التي تكون في الحج، فقال تعالى {.. فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ..}[البقرة: 197]
وعليك بالاستئذان قبل الدخول إلى بيت الملك ..
فتُقدِم رِجْلَك اليمنى لدخوله، وتقول :
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك، أعوذُ بالله العظيم وبوجهه الكريم وبُسلطانه القديم من الشيطان الرجيم.
ثمَّ تبدأ بالطواف حول البيـــت ..
وتذكَّر البيت المعمور الذي تطوف به الملائكة إلى يوم القيامة .. قال رجلاً لعلي رضي الله عنه: ما البيت المعمور ؟ قال "بيت في السماء يقال له (الضراح) وهو بحيال الكعبة من فوقها حرمته في السماء كحرمة البيت في الأرض يصلي فيه كل يوم سبعون ألفا من الملائكة ولا يعودون فيه أبدا" [السلسلة الصحيحة (1/859)]
والسُنة للرجال الاضطباع .. وهو كشف المنكب الأيمن .. وقد أمر النبي الصحابة بالكشف عن مناكبهم؛ لكي يرى المشركون مدى قوة المؤمنين .. فالمؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف .. وهنا عليك أن تستقوي بالله تعالى وتُكثِر من قول "لا حول ولا قوة إلا بالله"؛ لأن الله هو الذي يمدك بالقوة.
وتبدأ باستلام الحجر الأسود .. يقول النبي " إن مسح الحجر الأسود والركن اليماني يحطان الخطايا حطا"[رواه أحمد وصححه الألباني، صحيح الجامع (2194)] .. ولكن لا تُزاحم لاستلامه؛ عسى أن يشفع لك الحجر يوم القيامة.
فتقوم بمسح الحجر إمتثالاً لأمر الله عزَّ وجلَّ .. عن عابس بن ربيعة قال: رأيت عمر يقبل الحجر ويقول "وإني لأعلم أنك حجر ما تنفع ولا تضر، ولولا أني رأيت رسول الله يقبل ما قبلتك" [متفق عليه]
وتذكَّر أن هذا الحجر قطعة من الجنة .. قال رسول الله "نزل الحجر الأسود من الجنة وهو أشد بياضا من اللبن فسودته خطايا بني آدم"[رواه أحمد والترمذي وصححه الألباني]، وقال " لولا ما مس الحجر من أنجاس الجاهلية ما مسه ذو عاهة إلا شفي وما على الأرض شيء من الجنة غيره"[رواه البيهقي وصححه الألباني]
وبعدها تشرُع في الطواف حول الكعبة مع الرمَّل في الثلاثة أشواط الأولى للرجال .. وهو إسراعُ المشي مع مُقاربة الخُطا، وكإنك في بداية رحلتك إلى الله تعالى تحتاج إلى إسراع الخطا.
ولك بكل خطوة حسنة .. قال رسول الله "من طاف بالبيت أسبوعا لا يضع قدما ولا يرفع أخرى إلا حط الله عنه بها خطيئة وكتب له بها حسنة ورفع له بها درجة"[رواه ابن حبان وصححه الألباني]
و لم يرد عن النبي ـ فيما نعلم ـ أدعية أو أذكار تُقال في الطواف ..
إلا فيما بين الركن اليماني والحجر الأسود .. عن عبد الله بن السائب قال: سمعت رسول الله يقول ما بين الركنين: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. [رواه أبو داوود وحسنه الألباني]
ويستلم الركن اليماني كلما مر به .. عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله "يأتي الركن اليماني يوم القيامة أعظم من أبي قبيس له لسانان وشفتان" [رواه أحمد وحسنه الألباني]
والتكبير كلما حاذى الحجر الأسود .. عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: طاف النبي بالبيت على بعير كلما أتى الركن أشار إليه بشيء كان عنده وكبر.[صحيح البخاري]
أما في باقي الطواف فهو مخيَّر بين الذكر والدعاء وقراءة القرآن .. وأفضل ما تقوم به أثناء الطواف هو الدعــــــاء.
فإذا أتمَّ سبعةَ أشواط، تقدَّم إلى مقام إبراهيم .. فقرأ {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً}[البقرة:125] .. ثمَّ صلى ركعتين خلفَه قريباً منه إن تيسَّر، وإلا فبعيداً، يقرأ في الأولى بعد الفاتحة : {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}[الكافرون:1]، وفي الثانية بعد الفاتحة : {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}[الإخلاص:1] .. لكي تُجدد معاني التوحيد في قلبك.
يقول رسول الله ".. وأما ركعتاك بعد الطواف كعتق رقبة من بني إسماعيل عليه السلام .."[رواه الطبراني وحسنه الألباني، صحيح الترغيب والترهيب (1112)].. وإذا كان ثواب هاتين الركعتين كعتق رقبة، فإنها تكون سبيلاً لعتق رقبتك من النار .. عن أبي هريرة قال: قال رسول الله "من أعتق رقبة مسلمة أعتق الله بكل عضو منه عضوا من النار .."[متفق عليه]
ثمَّ تذهب لترتوي من ماء زمزم ..عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله "زمزم طعام طعم وشفاء سقم" [رواه البزار وصححه الألباني]
وعن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله يقول "ماء زمزم لما شرب له"[رواه ابن ماجة وصححه الألباني]
قال القاسم بن محمد بن عباد: سمعت سويد بن سعيد يقول: رأيت ابن المبارك بمكة أتى زمزم، فاستقى شربة، ثم استقبل القبلة، فقال: اللهم إن ابن أبي الموال حدثنا، عن محمد بن المنكدر، عن جابر: عن النبي أنه قال: (ماء زمزم لما شرب له) وهذا أشربه لعطش القيامة، ثم شربه. [سير أعلام النبلاء (15/410)]
فاجتهد في تحصيل النوايا عند شرب ماء زمزم، واحتسب: أن يُطهِّر الله قلبك ويغسله من آثار المعاصي والذنوب .. وأن يرزقك محبته وأن يُعينك على ذكره وشكره وحسن عبادته ..
وبعد ذلك تتوجه للسعي بين الصفا والمروة ..قال رسول الله ".. وأما طوافك بالصفا والمروة كعتق سبعين رقبة"[رواه الطبراني وحسنه الألباني، صحيح الترغيب والترهيب (1112)] .. فأعتِق تُعتَق.
وعند صعودك على الصفا .. تذكَّر وقوف الرسول على الصفا وإعلانه إنه النذير بين يدي عذاب شديد، ومدى معاناته لكي تصل الدعوة إلينا .. فتُكثِر من الصلاة عليه .
وتذكَّر سعي السيدة هاجر للبحث عن الماء، فعليك أن تسعى لطلب الرزق .. وأعظم رزق المؤمن هو رضا الله سبحانه وتعالى عنه.
كما إن هذا السعي يُذكِّرك بتقلبك بين كفتي الميزان يوم القيامة .. فسِل الله أن يُثقِل لك الميزان.
وعليك أن تشغِل نفسك طوال السعي بالذكــر .. ولا توجد أذكار معينة واردة ..
فإذا دنا من الصفا قرأ {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}[البقرة:158]، ولا يقرؤها في غير هذا الموضع.
ثمَّ ترقى على الصفا حتى ترى الكعبة .. فتستقبلها وترفع يديك فتحمدَ الله وتدعو بما شئت أن تدعو، وكان من دُعاء النبي هنا "لا إلـه إلا الله وحده لا شريك له، له المُلك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير، لا إلـه إلا الله وحده أنجزَ وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده"، يُكررّ ذلك ثلاثَ مراتٍ، ويدعو بينها. [رواه مسلم]
وبعد إتمام السبعة أشواط تأتي آخر خطوة في نُسك العمرة، وهي الحلق أو التقصير للنساء ولمن سيتمتع إلى الحج من الرجال .. قال رسول الله " .. وأما حلاقك رأسك فلك بكل شعرة حلقتها حسنة ويمحى عنك بها خطيئة .."[رواه الطبراني وحسنه الألباني، صحيح الترغيب والترهيب (1112)]
وأثناء الحلق تستحضر الذل والإنكسار وتُطأطأ رأسك استسلامًا لأمر الله عزَّ وجلَّ .. فاللهم خذ بأيدينا ونواصينا إليك، أخذ الكرام عليك،،
وهكذا نكون قد أنتهينا من مناسك العمرة ويحِل الحاج حلاً كاملاً، حتى يأتي اليوم الثامن من ذي الحجة ..