تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » حكم طلب الإمارة

حكم طلب الإمارة 2024.

حكم طلب الإمارة

الحمد لله رب العالمين، الذي بيده الملك والقوّة، وله العزّة والعظمة، والصّلاة والسّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، محمد صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى التابعين، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فقد دلَّ الشرع الحنيف، على فضل الإمارة، لمن عمل بها، إلا أنها مسئولية وأمانة، ففي الحديث الصحيح عن النبي – صلى الله عليه وسلم- من حديث ابن عمر – رضي الله عنهما: "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته "الحديث(1)، وقوله – عليه الصلاة والسلام- لأبي ذر – رضي الله عنه-: "إنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها"(2). وهذه المسئولية والأمانة شاملة لكلٍّ من الإمارة العامّة أو الخاصّة، كما يفيد ذلك تكرر لفظ: "راعٍ" في الحديث المتقدم، إذ أن رعاية الإمام هي: ولاية أمور الرعية والحياطة من ورائهم، وإقامة الحدود والأحكام فيهم، ورعاية الرجل هي: القيام على أهله بالحق والنفقة عليهم وحسن العشرة، ورعاية المرأة: حسن التدبير في بيت زوجها والقيام بما هو مطلوب منها في أمر بيته، ورعاية الخادم: حفظ مال سيده والقيام بشغله(3).
ولما كان قصد الشارع في تشريعه الأحكام تحقيق المصالح للعباد، فلابد من إمامٍ يلي أمور المسلمين العامة أو الخاصة، لكن كيف يمكن الوصول إلى الإمارة، بمعنى هل يجوز شرعاً طلب الإمارة مطلقاً، أم بضوابط شرعية، أم أنه لا يجوز؟
هذا ما أردت أن اكتب فيه، سائلاً من الله تعالى التوفيق والسداد، والإخلاص في القول والعمل، وسيكون السَّير في هذا البحث المتواضع، والذي عنوانه: (حكم طلب الإمارة) على النحو التالي:
1. تعريف الإمارة في اللغة والشرع.
2. فضل الإمارة.
3. الأحاديث الواردة في طلب الإمارة.
4. حكم طلب الإمارة.
5. الترجيح وبيان سبب الترجيح.
فأقول مستعيناً بالله، وهو حسبي ونعم الوكيل:

تعريف الإمارة في اللغة والشّرع.
أ- الإمارة في اللغة: هي الولاية.
قال ابن منظور: « أُمِّرَ فلانٌ: إِذا صُيِّرَ أَميراً، وقد أَمِرَ فلان وأَمُرَ بالضَّم، أَي صارَ أَميراً والمصدر: الإِمْرَةُ والإِمارةوالتَّأْميرُ: تَوْلية الإِمارة، وأَميرٌ مُؤَمَّرٌ: مُمَلَّكٌ، وأَمير الأَعمى: قائده؛ لأَنه يملك أَمْرَه... وأُولوا الأَمْرِ: الرُّؤَساءُ، وأَهل العلم »(4). وقال الفيومي: « الإِمَارَةُ: الولاية بكسر الهمزة، يقال: أَمَرَ على القوم: يَأْمُرُ، من باب: قتل، فهو: أَمِيرٌ، والجمع: الأُمَرَاءُ، ويعدَّى بالتضعيف فيقال: أمَّرْتُه تَأْمِيرًا »(5).والإمارة في اللغة: الولاية، والولاية: إما أن تكون عامّة وإما أن تكون خاصة(6). ومن معاني الإمارة كذلك: الخلافة، والحكم(7). ويطلق على من يأخذ منصب الإمارة، أمير، والجمع أمراء، ويندرج في لفظ الأمراء أمراء المسلمين في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وبعده، ويندرج فيهم الخلفاء، والسلاطين، والولاة، والقضاة، وغيرهم.
ب- الإمارة في الشرع:
الإمارة إما أن تكون عامّة أو خاصّة، فإن كانت عامَّة فقد عرفها الماوردي بأنها «موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين، وسياسة الدنيا به»(8). وكذلك الجويني فقال: « الإمامة رياسة تامة، وزعامة عامّة، تتعلق بالخاصة والعامة في مهمات الدين والدنيا، متضمنها حفظ الحوزة(9) ورعاية الرعية، وإقامة الدعوة بالحجة والسيف، وكف الحنف(10)، والحيف(11)، والانتصاف للمظلومين من الظالمين، واستيفاء الحقوق من الممتنعين، وإيفاؤها على المستحقين» (12).
وإن كانت الإمارة خاصّة، فهي الولاية على الغير، والقيام بها بما فيه تحقيق المصالح(13).
فضل الإمارة:
للإمارة فضائل كثيرة، وذلك لمن قام بها على الوجه المطلوب، واتخذها قربةً يتقرب بها إلى الله، كما قال ابن تيمية: « الواجب اتخاذ الإمارة ديناً وقربةً يتقرب بها إلى الله، فإن التقرب إليه فيها بطاعته وطاعة رسوله من أفضل القربات، وإنما يفسد فيها حال كثيرٍ من الناس؛ لابتغاء الرياسة أو المال بها »(14) ومن فضائل الإمارة ما يلي:
1. حديث عبد الله بن عمرو- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ المقسطين عند الله على منابر من نور، عن يمين الرحمن – عز وجل- وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما وُلّوا"(15).
2. حديث أبي هريرة- رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سبعةٌ يظلّهم الله يوم القيامة في ظلّه يوم لا ظلّ إلا ظلّه، إمامٌ عادل، وشابٌّ نشأ في عبادة الله، ورجلٌ ذكر الله في خلاء ففاضت عيناه، ورجلٌ قلبه معلّقٌ في المسجد، ورجلان تحابّا في الله، ورجلٌ دعته امرأة ذات منصبٍ وجمالٍ إلى نفسها، فقال: إني أخاف الله، ورجلٌ تصدّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما صنعت يمينه"(16), وقد علَّق العز بن عبد السلام على هذا بقوله: « وأجمع المسلمون على أن الولايات من أفضل الطاعات، فإن الولاة المقسطين أعظم أجراً وأجلّ قدراً من غيرهم؛ لكثرة ما يجري على أيديهم من إقامة الحق ودرء الباطل، فإن أحدهم يقول الكلمة الواحدة فيدفع بها مائة ألف مظلمة فما دونها، أو يجلب بها مائة ألف مصلحة فما دونها، فيا له من كلامٍ يسير وأجرٍ كبير»(17).
3. حديث عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- قال: قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: "لا حسد إلا في اثنتين: رجلٌ آتاه الله مالاً فسلَّطه على هلكته في الحق، ورجلٌ آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها"(18).قال ابن حجر: « وفي الحديث الترغيب في ولاية القضاء لمن استجمع شروطه، وقوي على أعمال الحق، ووجد له أعواناً؛ لما فيه من الأمر بالمعروف، ونصر المظلوم، وأداء الحق لمستحقه، وكفّ يد الظالم، والإصلاح بين الناس، وكلّ ذلك من القربات، ولذلك تولّاه الأنبياء ومن بعدهم من الخلفاء الرّاشدين»(19).
4. حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال يوم خيبر: "لأعطين هذه الراية رجلاً يحب الله ورسوله، يفتح الله على يديه. قال عمر بن الخطاب: ما أحببت الإمارة إلا يومئذ، قال: فتساورت لها (20) رجاء أن أدعى لها، قال: فدعا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – علي بن أبي طالب، فأعطاه إياها، وقال: امش ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك، قال: فسار عليٌّ شيئاً، ثم وقف ولم يلتفت، فصرخ: يا رسول الله! على ماذا أقاتل الناس؟ قال: قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإذا فعلوا ذلك، فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله"(21). وقد نصّ محمد ابن الحسن الشيباني على فضل الإمارة، فقال:« ولهذا كانت الإمارة والسلطنة بالعدل، أفضل من التخلي للعبادة، كما اختاره الخلفاء الراشدين؛ لأن ذلك أعمّ نفعاً»(22).

الأحاديث الواردة في طلب الإمارة:
1. حديث عبد الرحمن بن سمرة- رضي الله عنه- قال: قال لي النبي – صلى الله عليه وسلم -: "يا عبد الرحمن بن سمرة: لا تسأل الإمارة، فإنك إن أوتيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أوتيتها من غير مسألة أعنت عليها، وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها، فكفِّر عن يمينك وأت الذي هو خير"(23). فهذا الحديث نصٌّ في منع طلب الإمارة بقوله عليه الصلاة والسلام لعبد الرحمن بن سمرة: "لا تسأل الإمارة" وهو خطاب للجميع، إذ لا دليل على الخصوص.
2. حديث أبي موسى- رضي الله عنه- قال: أقبلت إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – ومعي رجلان من الأشعريين أحدهما عن يميني والآخر عن يساري، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستاك، فكلاهما سأل، فقال: "يا أبا موسى أو يا عبد الله بن قيس.قال: قلت: والذي بعثك بالحق ما أطلعاني على ما في أنفسهما وما شعرت أنهما يطلبان العمل، فكأني أنظر إلى سواكه تحت شفته قلصت(24)، فقال: لن أو لا نستعمل على عملنا من أراده، ولكن اذهب أنت يا أبا موسى أو يا عبد الله بن قيس إلى اليمن، ثم أتبعه معاذ بن جبل، فلما قدم عليه ألقى له وسادة، قال: انزل وإذا رجل عنده موثق(25)، قال ما هذا؟ قال: كان يهودياً فأسلم ثم تهود، قال: اجلس، قال: لا أجلس حتى يقتل قضاء الله ورسوله، ثلاث مرات، فأمر به فقتل، ثم تذاكرا قيام الليل، فقال أحدهما: أمّا أنا فأقوم وأنام وأرجو في نومتي ما أرجو في قومتي"(26). الشّاهد من هذا الحديث قوله عليه الصلاة والسلام: "لن أو لا نستعمل على عملنا من أراده"، أي طَلَبه, وفي روايةٍ: "إنا لا نولي هذا من سأله، ولا من حرص عليه"(27). أفادت هذه الرواية، أن سؤال الولاية أو الحرص عليها مانعٌ من إعطائها.
3. حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: "إنكم ستحرصون على الإمارة وستكون ندامة يوم القيامة، فنعم المرضعة، وبئست الفاطمة"(28), هذا الحديث دلَّ على وجود الحرص على الإمارة، وهذا إخبار منه صلى الله عليه وسلم بالشيء قبل وقوعه، ويعقب هذا الحرص الندامة يوم القيامة، وذلك لمن لم يعمل فيها بما ينبغي. وقوله: فنعم المرضعة: أي أول الإمارة؛ لأن معها المال والجاه واللذات الحسية والوهمية. وبئست الفاطمة: أي آخرها؛ لأن معه القتل والعزل والمطالبة بالتبعات يوم القيامة، كما جاء في شرح البخاري (29). وقال الداودي: «نعمت المرضعة في الدنيا، وبئست الفاطمة أي بعد الموت؛ لأنه يصير إلى المحاسبة على ذلك، فيصير كالذي يفطم قبل أن يستغني فيكون ذلك هلاكه»(30).
4. حديث أبي ذر- رضي الله عنه – قال: "قلت: يا رسول الله! ألا تستعملني؟ قال: فضرب بيده على منكبي، ثم قال: يا أبا ذر! إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزيٌ وندامة، إلا من أخذها بحقّها وأدّى الذي عليه فيها"(31).
فدلَّت هذه الأحاديث بمجملها، على منع طلب الإمارة، بالإضافة إلى أن من المحدثين من بوَّبَّ على باب الإمارة بقوله : باب كراهة الإمارة بغير ضرورة (32).
حكم طلب الإمارة.
اختلف أهل العلم في جواز سؤال الإمارة، أو القضاء أو ما أشبهذلك من الولايات على ثلاثة أقوال، كالتالي(33):
القول الأول: الجواز.
القول الثاني: التحريم.
القول الثالث: التفصيل.
· أما القائلون بالجواز، أي جواز طلب الإمارة، فاستدلوا بقول يوسف عليه السلام، حيث قال لملك مصر: ﴿ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ﴾[يوسف:55], فقد سأل الولاية، ومعلوم ٌأنَّ شرع من قبلنا شرعٌ لنا، ما لم يرد في شرعنا ما يخالفه.
وكذلك استدل القائلون بالجواز، بحديث عثمان بن أبي العاص- رضي الله عنه- حين قال للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعلني إمام قومي، قال: "أنت إمامهم، واقتد بأضعفهم، واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً"(34).
· وأما القائلون بالتحريم، أي تحريم طلب الإمارة، فقد استدلوا بحديث عبد الرحمن بن سمرة، والذي تقدم ذكره، وفيه قوله عليه الصلاة والسلام: "لا تسأل الإمارة". فقد نهاه النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يسأل الإمارة،وبيَّن له سبب النهي، بأنّ من أعطيها عن مسألة، وُكِل إليها، ومن أتته دونمسألة، أعانه الله عليها.
وكذلك استدل القائلون بالتحريم، بقوله عليه الصلاة والسلام: "إنا لا نولي هذا من سأله ولا من حرص عليه". فهذا نصٌّ في منع تولية من سال الإمارة مطلقاً، أو حرص عليها. كما استدلوا بالأحاديث السابقة، والتي مجملها النهي عن سؤال الإمارة.
· وأما القائلون بالتفصيل، أي التفصيل في حكم طلب الإمارة، فقالوا: إن كان سؤال الإمارة؛ لإصلاح ما فسد منها، وعَلِم طالبُها من نفسه القدرة عليها، فإن ذلك جائز، وإلا فلا يجوز سؤالها؛ لأن السلامة للإنسان أسلم، وقد ناقش القرطبي في تفسيره عند طلب يوسف- عليه السلام- الإمارة، ثمَّ رجَّح التفصيل بناءً على سبب طلب الإمارة، واختلاف طالبيها، ومجمل نقاشه هو أنَّ الآية قد دلّت على جواز أن يسأل الإنسان عملاً يكون له أهلاً، فإن قيل: فقد روى مسلم عن عبد الرحمن بن سمرة قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة…" وحديث أبي موسى وفيه: "لن أو لا نستعمل على عملنا من أراده" فالجواب هو ما يلي:
– أولاً: أن يوسف عليه السلام إنما طلب الولاية؛ لأنه علم أنه لا أحد يقوم مقامه في العدل والإصلاح وتوصيل الفقراء إلى حقوقهم، فرأى أن ذلك فرض متعين عليه، فإنه لم يكن هناك غيره، وهكذا الحكم اليوم، لو علم إنسان من نفسه أنه يقوم بالحق في القضاء أو الحسبة، ولم يكن هناك من يصلح ولا يقوم مقامه، لتعين ذلك عليه، ووجب أن يتولاها ويسأل ذلك، ويخبر بصفاته التي يستحقها به من العلم والكفاية وغير ذلك، كما قال يوسف عليه السلام، فأما لو كان هناك من يقوم بها ويصلح لها وعلم بذلك، فالأولى ألا يطلبها، لقوله عليه الصلاة والسلام لعبد الرحمن: "لا تسأل الإمارة " وأيضاً فإن في سؤالها والحرص عليها مع العلم بكثرة آفاتها وصعوبة التخلص منها، دليلٌ على أنه يطلبها لنفسه ولأغراضه، ومن كان هكذا يوشك أن تغلب عليه نفسه فيهلك، وهذا معنى قوله عليه السلام: "وُكِل إليها " ومن أباها لعلمه بآفاتها، ولخوفه من التقصير في حقوقها فر منها، ثم إن ابتلي بها فيرجى له التخلص منها، وهو معنى قوله: " أعين عليها ".
– ثانياً: أنه قال: ﴿ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ﴾[يوسف: 55]. فقد سأل الولاية بالحفظ والعلم، لا بالنسب والجمال.
– ثالثاً: إنما قال يوسف ذلك عند من لا يعرفه، فأراد تعريف نفسه، وصار ذلك مستثنى من قوله تعالى: ﴿ فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ ﴾ [النجم: 32].
– رابعاً: أنه رأى ذلك فرضاً متعيناً عليه؛ لأنه لم يكن هنالك غيره، وهو الأظهر، والله أعلم(35).
القول الراجح وبيان سبب الترجيح.
الذي يظهر – والله أعلم- أنَّ القول بالتفصيل في حكم طلب الإمارة، هو الراجح، وذلك لأن الأدلة الواردة في الإمارة عموماً متعارضة في ظاهرها، وحيث لا يمكننا الترجيح للأحاديث الدالة على المنع من طلب الإمارة على الإطلاق؛ لمعارضة الأدلة المجيزة بإطلاق، ولا يمكننا الترجيح كذلك للأحاديث الدالة على جواز طلب الإمارة على الإطلاق، لمعارضة الأدلة المانعة، فيبقى مسلك الجمع بين الروايات الصحيحة المتعارضة، ومفاد هذا الجمع هو:
منع طلب الإمارة بدون سبب، وكذلك عند ضعف طالبها عن القيام بها كما ينبغي، وأما مع وجود السبب لطلبها، مع القدرة على القيام بها، فهذا لا يدخل في عموم النهي عن طلب الإمارة.
وهذا التفصيل هو ما نصَّ عليه الفقهاء في كتبهم، فنجد أن الإمام النووي بعد أن ساق حديث أبي ذر- رضي الله عنه- عندما طلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يوليه، فقال له: "إنك ضعيف…" علَّق عليه بقوله: «هذا الحديث أصلٌ عظيم في اجتناب الولايات لا سيما لمن كان فيه ضعف عن القيام بوظائف تلك الولاية، وأما الخزي والندامة فهو في حق من لم يكن أهلا لها، أو كان أهلا ولم يعدل فيها فيخزيه الله تعالى يوم القيامة ويفضحه ويندم على ما فرّط، وأما من كان أهلا للولاية وعدل فيها، فله فضل عظيم تظاهرت به الأحاديث الصحيحة»(36).
فظهر بهذا أن المنع من استعمال أبي ذر على أمرٍ من أمور المسلمين، هو الضعف المنصوص عليه من النبي عليه الصلاة والسلام لأبي ذر- رضي الله عنه- وقد ورد في بعض الروايات أنه قال له: "يا أبا ذر: إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمَّرنّ على اثنين، ولا تولّينّ مال يتيم"(37).
وكذلك يكون الجمع بين حديث أبي موسى- رضي الله عنه- والذي فيه قوله صلى الله عليه وسلم: "إنا لا نولي هذا من سأله، ولا من حرص عليه" وبين الأدلة الدالّة على جواز طلب الإمارة، بأنّ من طلبها لحظ نفسه مُنع منها، ومن طلبها لمصلحة الناس، وكان أهلاً لها فله ذلك، وعلى ذلك يحمل قول عثمان ابن أبي العاص، عندما قال للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعلني إمام قومي، قال: "أنت إمامهم…".
وأما حديث: "إنكم ستحرصون على الإمارة وستكون ندامةً يوم القيامة… " والإمارة قطعاً ستكون ندامة يوم القيامة، لمن لم يعمل فيها بما هو مطلوب فعله، وهذا الحديث مطلق في كلِّ من طلب الإمارة.
وقد قيَّد هذا الحديث مقيَّدان، الأول: العدل في الإمارة، كما رواه الطبراني بلفظ: "أولها ملامة، وثانيها ندامة، وثالثها عذابٌ يوم القيامة، إلا مَن عَدَل"(38), والمقيِّد الثاني: من أخذ الإمارة بحقها، كما في حديث زيد بن ثابت: "نعم الشيء الإمارة لمن أخذها بحقها وحلها, وبئس الشيء الإمارة لمن أخذها بغير حقها تكون عليه حسرةً يوم القيامة"(39).
وقد قال ابن حجر بعد أن ساق حديث الحرص على الإمارة ما نصُّه: « بل في التعبير بالحرص إشارة إلى أنّ من قام بالأمر عند خشية الضياع، يكون كمن أعطي بغير سؤال؛ لفقد الحرص غالباً عمن هذا شأنه، وقد يُغتفَر الحرص في حق من تعيّن عليه، لكونه يصير واجباً عليه»(40).
وقد نصَّ ابن القيم، على جواز تأمير الإمام وتوليته لمن سأله ذلك إذا رآه كفأً، ولا يكون سؤاله مانعاً من توليته، وهذا لا يناقض ما ورد في حديث أبي موسى: "إنا لن نولي على عملنا هذا من أراده" فإنّ هذا يختلف باختلاف السائلين، فإن الصدائي – زياد بن الحارث – سأل الرسول صلى الله عليه وسلم أن يؤمِّره على قومه خاصة وكان مطاعا فيهم، محببا إليهم، وكان المقصود من هذا الطلب هو إصلاحهم ودعوتهم إلى الإسلام(41)، ورأى أن السائل الذي في حديث أبي موسى، إنما سأله الولاية لحظّ نفسه ومصلحته هو فمنعه منها؛ فولَّى للمصلحة، ومنع للمصلحة، فكانت توليته لله، ومنعه لله (42).
وقد بيّن الغزالي في الإحياء، أنه لا يوجد تعارض بين الأحاديث، وأن من يظن أن هناك تعارضا، فليس قوله صواباً، فقال: « ولعلّ القليل البصيرة يرى ما ورد من فضل الإمارة مع ما ورد من النهي عنها متناقضًا، وليس كذلك، بل الحق فيه أنّ الخواص الأقوياء في الدين لا ينبغي أن يمتنعوا من تقلد الولايات، وأنّ الضعفاء لا ينبغي أن يدوروا بها فيهلكوا، وأعني بالقوي الذي لا تُميله الدنيا، ولا يستفزه الطمع، ولا تأخذه في الله لومة لائم، وهم الذين سقط الخلق عن أعينهم، وزهدوا في الدنيا، وتبرّموا بها وبمخالطة الخلق، وقهروا أنفسهم وملكوها، وقمعوا الشيطان فآيس منهم، فهؤلاء لا يحركهم إلا الحق، ولا يسكنهم إلا الحق، ولو زهقت فيه أرواحهم، فهم أهل نيل الفضل في الإمارة والخلافة، ومن علم أنه ليس بهذه الصفة، فيحرم عليه الخوض في الولايات »(43).


الخلاصة:
يمكن تلخيص هذا البحث على النحو التالي:
الإمارة هي الولاية، وقد تكون عامة أو خاصة.
للإمارة فضائل كثيرة، لمن عمل بها وعدل فيها، وذلك لكثرة الخير الذي يجري على يد الأمراء عموماً.
اختلف أهل العلم في حكم طلب الإمارة على ثلاثة أقوال، التحريم، والجواز، والتفصيل.
الراجح في حكم طلب الإمارة، هو التفصيل في سبب طلبها، واختلاف طالبيها، فمن سألها لمصلحة نفسه، مع ضعف القيام بها، فسؤاله مانعٌ من توليته، وإلا فلا، كما هو قول أكثر أهل العلم.

والله تعالى أعلم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.