خبر الله سبحانه في سورة الحجر ان ابليس لا سلطان له على عباده المخلصين ، في ذكره ما داربينه و بين ابليس من محاورة ، وذلك في قوله تعالى : قال … ( رب بما اغويتني لا زينن لهم في الا رض و لا غوينهم اجمعين الا عبادك منهم المخلصين ان عبادي ليس لك عليهم سلطان الا من اتبعك من الغاوين ) (4) .
و اخبر تعالى عما جرى بين يوسف و زليخا ، و كيف يعصم الله المخلصين من اغواء الشيطان ، حيث قال تعالى في سورة يوسف : ( و لقد همت به و هم بها لولا ان راءى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء و الفحشاء انه من عبادنا المخلصين ) (5) و عرفنا ان الوصف المذكور من شروط الامامة في ما اخبر الله عما دار بينه و بين خليله ابراهيم (ع) في سورة البقرة ، و قال : ( و اذ ابتلى ابراهيم ربه بكلمات فاتمهن قال اني جاعلك للناس اماما قال و من ذريتي قال لاينال عهدي الظالمين ) (6) و ذكر في سورة الانبياء ان الذين جعلهم ائمة ، يهدون بامره ، و قال تعالى : ( و جعلناهم ائمة يهدون بامرنا … ) (7) و ذكر منهم في تلك السورة نوحا و ابراهيم و لوطا و اسماعيل و ايوب و ذا الكفل و يونس وموسى و هارون و داود و سليمان وزكريا و يحيى و عيسى (ع) .
و كان في من وصفهم بالامامة في هذه السورة : النبي والرسول و الوزير و الوصي.
اذا فقد بان لنا ان الله تبارك و تعالى اشترط لمن جعله اماما ان يكون غير ظالم.
و قد وصف الله الامام بانه خليفته في الارض ، كما ورد في خطابه لداود (ع) في سورة ص : ( يا داود انا جعلناك خليفة في الا رض ) (8) و ورد في وصفه لادم (ع) في خطابه للملائكة في سورة البقرة : ( واذ قال ربك للملائكة اني جاعل في الا رض خليفة … ) (9) كما سنشرحه بعد تفسير كلمات الايات ان شاء الله تعالى.
شرح الكلمات :
ا ـ اغويتني ، و لاغوينهم ، و الغاوين : غوى فهو غاو : انهمك في الغي.
و اغواه : اضله و اغراه ، و قصد اللعين بقوله اغويتني : انه تعالى بلعنه و قوله له قبل هذه الاية : ( وان عليك اللعنة الى يوم الدين ) ، ابعده عن رحمته جزاء تمرده و امتناعه عن السجود لادم ، كماقال تعالى في سورة البقرة : ( يضل به كثيرا و يهدي به كثيرا و ما يضل به الا الفاسقين ) (10)
ب ـ لازينن لهم : اي : اءحسن لهم سوء اءعمالهم ، كما قال سبحانه و تعالى : ( زين لهم الشيطان اعمالهم ) (11) و ( زين لهم سوء اعمالهم ) (12)
ج ـ المخلصين : المخلصون : هم الذين اخلصهم الله لنفسه بعدما اخلصوا انفسهم للّه ، فليس في قلوبهم محل لغيره.
د ـ ابتلى : بلاه بلاء و ابتلاه ابتلاء : امتحنه و اختبره بالخير و الشر والنعمة و النقمة.
ه ـ بكلمات : المقصود من الكلمات هنا قضايا امتحن الله بها ابراهيم (ع) ، مثل ابتلائه بعباد الكواكب و الاصنام ، و احراقه بالنار ، و تضحيته بابنه ، و امثالها.
و ـ فاتمهن : اي : اكمل اداءهن.
ز ـ جاعلك : وردت جعل بمعنى : خلق و اوجد و حكم و شرع و قرر وصير ، و الاخير هو المقصود هنا.
خ ـ اماما : الامام : هو المقتدى للناس في الاقوال و الافعال.
ط ـ الظالمين : الظلم : وضع الشي ء في غير موضعه ، و الظلم ـ ايضا ـ تجاوز الحق.
و الظلم ثلاثة انواع : اولا : ظلم بين الانسان و ربه ، و اعظمه الشرك و الكفر ، كما قال سبحانه في سورة لقمان : ( ان الشرك لظلم عظيم ) (13) و في سورة الانعام : ( فمن اظلم ممن كذب بيات الله … ) (14) ثانيا : ظلم بين الانسان و غيره ، كما قال سبحانه و تعالى في سورة الشورى : ( انما السبيل على الذين يظلمون الناس ) (15) ثـالثـا : ظلم الانسان نفسه ، كما قال سبحانه و تعالى في سورة البقرة : ( … و من يفعل ذلك فقدظلم نفسه ) (16) و في سورة الطلاق : ( و من يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه ) (17) و كل نوع من الظلم ظلم للنفس.
يقال لمن اتصف بالظلم في اي زمان من عمره المتقدم منه او المتاخر : ظالم.
ي ـ همت به و هم بها : هم بالامر : عزم على القيام به و لم يفعله.
ك ـ راى : راى بالعين : نظر ، و بالقلب : ابصر ، و ادرك.
ل ـ برهان : البرهان : اوكد الادلة ، و الحجة البينة الفاصلة ، و ما رآه يوسف اكثر من هذا.
تاويل الايات : قال ابليس لرب العالمين : رب بما لعنتني و ابعدتني عن رحمتك لازينن للناس في دار الدنياالاعمال السيئة ، كما قال سبحانه :
ا ـ في سورة النحل : ( لقد ارسلنا الى اءمم من قبلك فزين لهم الشيطان اعمالهم ) (18)
ب ـ في سورة الانفال : ( و اذ زين لهم الشيطان اعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم … ) (19)
ج ـ في سورة النمل : ( … يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان اعمالهم فصدهم عن السبيل … ) (20) و قال الشيطان : لازينن للناس اعمالهم و لاغوينهم اجمعين الا عبادك الذين اصطفيتهم لنفسك.
و قال الله في جوابه : انك لا سلطة لك على من اتبعك من المنهمكين في الغي و الضلالة ، و اخبرتعالى عن شان عباده المخلصين في ما حكاه عن خبر يوسف (ع) و زليخا ، حيث قال : ( و لقدهمت به و هم بها لولا ان راءى برهان ربه ) في بيت خلا عن كل انسان ما عدا يوسف (ع) .
و زليخا عزيزة مصر و مالكة يوسف ، همت ان تنال ماربها من يوسف ، و لولا ان يوسف راى برهان ربه لهم بقتلها و هو السوء ، او هم بالفحشاء كما هو مقتضى طبيعة الحال التي كان عليهاالفتى مكتمل الرجولة غير المتزوج مع مالكته الفتاة مكتملة الانوثة المترفة في بيت خلا من كل احد ، و لكنه راى برهان ربه و استعصم ، فقد كان ممن اخلصه الله لنفسه.
فما هو البرهان الذي رآه يوسف (ع) ؟ و كيف رآه ؟ ان يوسف (ع) راى آثار العملين على نفسه كالاتي بيانه :
اثر العمل و خلوده و انتشار البركة و الشؤم من بعض الاعمال على الزمان و المكان
ا ـ في سورة البقرة : ( شهر رمضان الذي اءنزل فيه القرآن هدى للناس و بينات من الهدى و الفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) (21)
ب ـ في سورة القدر : ليلة القدر خير من الف شهرو ما ادريك ما ليلة القدر ( انا انزلناه في ليلة القدر سلام هي حتى مطلع الفجر ) .
تنزل الملائكة و الروح فيها باذن ربهم من كل امر انزل الله القرآن على خاتم انبيائه في ليلة من ليالي شهر رمضان ، فاصبحت تلك الليلة ليلة القدر تنزل الملائكة و الروح فيها كل سنة بامر ربهم ابد الدهر ، و انتشرت البركة من تلك الليلة الى كل شهر رمضان كذلك ابد الدهر.
و ان الجمعة اصبحت مباركة منذ عهد آدم (ع) ، و ان عصر التاسع من ذي الحجة اصبح مباركايغفر الله ذنوب عباده فيه بمنى لنزول المغفرة على آدم (ع) فيه ، و اصبحت اراضي عرفات والمشعر و منى اراضي مباركة في التاسع و العاشر كم ذي الحجة على كل بني آدم (ع) بعد ذلك ، وبقي اثرها كذلك ابد الدهر.
و كذلك اصبح اثـر قدمي ابراهيم (ع) في البيت على تلك الكتلة من الطين التي رقى عليها ابراهيم (ع) لبناء جدار البيت مباركا ، فامرنا الله باتخاذها مصلى بعد ذلك ابد الدهر و قال : ( واتخذوامن مقام ابراهيم مصلى ) .
و كذلك الشان في انتشار الشؤم كما كان من امر بيوت عاد في الحجر بعد نزول العذاب عليهم ، كما اخبرنا رسول الله (ص) عنها عند مروره عليها في غزوة تبوك ، و جاء خبره في كتب الحديث والسيرة ، و قالوا ما موجزه : لما سار رسول الله (ص) الى غزوة تبوك في سنة تسع من الهجرة مر بالحجر ـ ديار ثمود بوادي القرى في طريق الشام من المدينة ـ فنزل قبل ان يمر بها ، فاستقى الجيش من بئرها ، فنادى منادي النبي ان : لا تشربوا من ماء بئرهم ، و لا تتوضاوا منه للصلاة ، فجعل الناس يهريقون ما في اسقيتهم و قالوا : يا رسول الله قد عجنا ، قال : اعلفوها الابل خوف ان يصيبكم مثل ما اصابهم.و لما ارتحل و مر بالحجر ، سجى ثوبه على وجهه واستحث (22) راحلته و فعل الجيش كذلك ، وقال رسول الله (ص) : لا تدخلوا بيوت الذين ظلموا الا و انتم باكون.
و جاء رجل بخاتم وجده في الحجر في بيوت المعذبين ، فاعرض عنه و استتر بيده ان ينظر اليه ، و قال : القه (23) .
و وقع نظير ذلك للامام علي (ع) كما رواه نصر بن مزاحم وغيره ،
و اللفظ لنصر في كتابه وقعة صفين بسنده ، قال : كان مخنف بن سليم يساير عليا ببابل (24)
قال : فحرك دابته و حرك الناس دوابهم في اثره ، فلما جاز جسر الصراة نزل فصلى بالناس العصر (25) .
و في رواية راو آخر : قطعنا مع امير المؤمنين جسر الصراة في وقت العصر ، فقال : ان هذه ارض معذبة لا ينبغي لنبي ولا وصي نبي ان يصلي فيها (26) . ، فقال الامام علي (ع) : ان ببابل ارضا خسف بهافحرك دابتك لعلنا نصلي العصر خارجا منها.
1 ـ البقرة : 124.
2 ـ الانفال / 46.
3 ـ النساء / 59.
4 ـ الايات 30 ـ 42.
5 ـ الاية 24.
6 ـ الاية 124.
7 ـ الاية 73.
8 ـ الاية 26.
9 ـ الاية 30.
10 ـ الاية 26.
11 ـ الانفال /48 , النحل /24 , العنكبوت /37.
12 ـ التوبة /37.
13 ـ الاية 13.
14 ـ الاية 157.
15 ـ الاية 42.
16 ـ الاية 231.
17 ـ الاية 1.
18 ـ الاية 63.
19 ـ الاية 48.
20 ـ الاية 24 .
21 ـ الاية 185.
22 ـ سجى ثوبه على وجهه : غطاه , و استحث راحلته : استعجلها.
23 ـ الخبر في مادة الحجر في معجم البلدان , و خبر غزوة تبوك في سيرة ابن هشام
24 ـ بابل في العراق بين الكوفة و بغداد, و جسر الصراة كان على نهر الصراة بالقرب من بغداد.
25 ـ صفين : 135 .
26 ـ في البحار 41 : 168 , عن علل الشرائع : 124 , و بصائر الدرجات : 58.