الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على المبعوثِ رحمةً للعالمين، نبيِّنا محمَّد، وعلى آله وصحْبه أجمعين.
أمَّا بعدُ:
فإنَّ الاستغفار يجب على كلِّ مذنب، ويستحبُّ في حقِّ جميع الناس رِجالاً ونساءً، ولكنه في حق النساء أوجبُ وآكد؛ لما جاء في الحديث عن عبدالله بن عمر – رضي الله عنهما – عن رسولِ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – أنه قال: ((يا معشرَ النساء، تصدَّقْنَ، وأكثِرْنَ الاستغفار؛ فإنِّي رأيتكنَّ أكثرَ أهل النار))، فقالت امرأة منهنَّ جَزْلة: وما لنا يا رسولَ الله، أكثر أهل النار؟ قال: ((تُكثرن اللَّعْن، وتكفرن العشير، وما رأيتُ مِن ناقصات عقْل ودين أغلبَ لذي لبٍّ منكنَّ))، قالت: يا رسولَ الله، وما نقصانُ العقل والدِّين؟ قال: ((أمَّا نقصان العقل فشهادة امرأتين تعدِل شهادةَ رجل، فهذا نقصان العقل، وتمكُث الليالي ما تُصلِّي، وتُفطر في رمضان، فهذا نقصان الدِّين))[1].
غريب الحديث:
قوله: "يا معشر النساء": المعشر هم الجماعةُ الذين أمْرُهم واحد؛ أي: مشتركون، وهو اسم يتناولهم كالإنس معشر، والجن معشر، والأنبياء معشر، والنِّساء معشر، ونحو ذلك، وجَمْعُه: معاشر.
قوله: "جَزْلة" بفتح الجيم وإسكان الزاي؛ أي: ذات عقل ورأي، قال ابن دريد: "الجزالة" العقل والوقار.
قوله: "وتكفُرْن"؛ أي: تجحدن نِعمةَ الزوج وفضله وإحسانه.
قوله: "العشير" بفَتح العين وكسر الشين، وهو في الأصل المعاشِر مطلقًا، والمراد هنا الزوج.
واللُّب: هو العقل، ومنه قوله – تعالى -: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِأُوْلِي الألْبَابِ ﴾ [آل عمران: 190]؛ أي: أولي العقول.
بعض الفوائد المستفادة من الحديث:
في هذا الحديثِ فوائدُ فريدة، وأحكامٌ سديدة، ومنها:
أولاً: الحثُّ على الصَّدقة، وسائِر أفعال البِر والإحسان، فإنَّ أفعال الخير تقِي مصارعَ السوء.
ثانيًا: أنَّ الحسنات يُذهِبْن السيئات؛ قال – تعالى -: ﴿ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ﴾ [هود: 114]، ولحديث معاذ بن جبَل – رضي الله عنه – أنَّ رسولَ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – قال: ((اتَّقِ الله حيثما كنت، وأتْبِع السيئةَ الحسنةَ تمْحُها، وخالِق الناس بخُلُق حسَن))[2]، فجحْدُ نِعمة الزوج، وإنكار إحسانه، واللَّعْن مِن السيئات، والاستغفار والصَّدَقة مِن الحسنات الماحيات، فإذا أذنبت فتُب، وإذا أسرفْتَ فأمسك، وإذا سوفتَ فبادِر، فالفرصة ما زالتْ سانحةً، والباب ما زال مفتوحًا.
ثالثًا: أهمية الصدقة والاستغفار بالنسبة للنساء؛ ذلك أنَّ النِّساء يكثرن مِن القيل والقال، فأرشدهنَّ النبي – عليه الصلاة والسلام – إلى الاستغفارِ والصدقة.
رابعًا: تأثُّر النساء بالمواعظ، وسُرعة استجابتهنَّ لذلك؛ كما شهِد بذلك مَن لا ينطق عن الهوى، ودلَّ عليه الواقع؛ قال ابنُ بطال – رحمه الله -: "وكان في النِّساء امرأةُ ابن مسعود، فانصرفتْ إلى ابنِ مسعود، فأخبرتْه بما سمِعتْ من رسولِ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – وأخذتْ حليًّا لها، فقال ابنُ مسعود: أين تذهبين بهذا الحُلي؟ فقالت: أتقرَّب به إلى الله وإلى رسولِ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – لعلَّ الله ألاَّ يجعلني مِن أهل النار"[3].
خامسًا: استحباب وعْظ النِّساء، وتعلميهنَّ أحكامَ الإسلام، وتذكيرهنَّ بما يجب عليهنَّ، كما فعَل النبيُّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – وقدِ اشتكين إلى النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – استثئارَ الرِّجال به، وطلبْن منه أن يخصِّص لهنَّ يومًا لتعليمهنَّ، ووعظهنَّ، فلبَّى طلبهنَّ؛ كما جاء في حديث أَبِي سَعِيدٍ الخدري -رضي الله عنه – قال: ((جاءتِ امرأةٌ إلى رسولِ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – فقالت: يا رسولَ الله، ذهَب الرجال بحدِيثك، فاجعلْ لنا من نفْسِك يومًا نأتيك فيه تُعلِّمنا مما علّمك الله))، وفي رواية للبخاري: قالتِ النساء للنبي – صلَّى الله عليه وسلَّم -: غلَبَنا عليك الرجالُ، فاجعل لنا يومًا مِن نفسك، فقال: ((اجتمِعْنَ في يوم كذا وكذا، في مكانِ كذا وكذا))، وفي رواية: ((موعدكنَّ بيت فُلانة)) فاجتمعنَ، فأتاهنَّ رسولُ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – فعلمهنَّ ممَّا علَّمه الله، ووعظهنَّ، وأمرهنَّ، فكان فيما قال لهنَّ: ((ما مِنكنَّ امرأةٌ تقدِّم بين يديها من ولدها ثلاثةً لم يبلغوا الحِنْث إلا كان لها حجابًا مِن النار))، فقالت امرأة منهنَّ: يا رسولَ الله، أو اثنين؟ فأعادتها مرَّتين، ثم قال: ((واثنين، واثنين، واثنين))[4].
سادسًا: أنَّ الصدَقة والاستغفار من موانعِ نُزُول العذاب، ودوافِع العقاب؛ كما تدلُّ على ذلك نصوصُ الكتاب والسُّنة الصحيحة، ومِن ذلك قوله – تعالى -: ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ [الأنفال: 3]، قال بعضُهم: "كان لنا أمانان: أحدهما كونُ الرسول – صلَّى الله عليه وسلَّم – فينا فذهَب، وبقِي الاستغفار فإنْ ذهب هلكْنا"[5].
ولِمَا جاء في حديثِ أبي موسى – رضي الله عنه – قال: خُسِفت الشمس، فقام النبيُّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – فزعًا، يخشى أن تكونَ الساعة، فأتى المسجدَ فصلَّى بأطول قيام ورُكوع وسجود رأيته قطُّ يفعله، وقال: ((هذه الآيات التي يُرسِل الله، لا تكون لموتِ أحد ولا لحياته، ولكن يُخوِّف الله به عبادَه، فإذا رأيتم شيئًا مِن ذلك، فافزعوا إلى ذِكره ودعائه واستغفاره))[6]، وفي حديثِ عائشة – رضي الله عنها – قال: ((فإذا رأيتموهما فكبِّروا وادْعوا الله، وصلُّوا وتصدَّقوا))[7].
سابعًا: بذل النصيحة، والإخلاص فيها، فالنبيُّ – عليه الصلاة والسلام – أتى إلى النِّساء ونصحهنَّ، وذكرهنَّ بالله بما وقعْنَ فيه مِن مخالفات، وأرشدهنَّ إلى ما يجب عليهنَّ فِعْله.
ثامنًا: أنَّ نِساء الدنيا أكثرُ أهل النار؛ لقوله: ((إنِّي رأيتكنَّ أكثرَ أهل النار))، ولقوله في الحديث الآخر: ((اطلعتُ في النار فرأيتُ أكثرَ أهلها النساء))[8].
تاسعًا: أنَّ الإيمان يَزيد وينقص، يزيد بالطاعات، وينقُص بالسيِّئات، كما هو قول الحق مِن أهل السنة والجماعة؛ لأدلَّة كثيرة مِن الكتاب والسنة الصحيحة، ومنها قوله – تعالى -: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [الأنفال: 2]، وقوله: ﴿ وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ﴾ [التوبة: 124]، وقوله: ﴿ وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا ﴾ [مريم: 76].
قال حافظ حكمي – رحمه الله – في منظومته الموسومة بـ"سُلَّم الوصول":
إِيمَانُنَا يَزِيدُ بِالطَّاعَاتِ
وَنَقْصُهُ يَكُونُ بِالزَّلاَّتِ وَأَهْلُهُ فِيهِ عَلَى تَفَاضُلِ هَلْ أَنْتَ كَالْأَمْلاَكِ أَوْ كَالرُّسْلِ[9]
عاشرًا: أنَّ مَن كثرت عبادته زاد إيمانُه، ومَن نقصت عبادته نقَص دِينه؛ ولذلك فقد جاء عن أبي هريرةَ – رضي الله عنه – قال: قال رسولُ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ الله تعالى قال: مَن عادى لي وليًّا فقد آذنتُه بالحرب، وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيءٍ أحبَّ إليَّ مما افترضتُ عليه، وما يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا أحببتُه: كنتُ سمعَه الذي يسمع به، وبصرَه الذي يُبصِر به، ويدَه التي يبطش بها، ورِجله التي يمشي بها، وإنْ سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذني لأعيذنَّه))[10]، فإذا زاد العبدُ مِن العبادات زاد إيمانه، وإذا نقَص منها نقَص إيمانُه بقدر نقصه منها، ولكنَّه لم يزلْ في دائرة الإسلام ولم يخرُجْ عنه، قال حافظ حكمي – رحمه الله -:
وَالْفَاسِقُ الْمِلِيُّ ذُو الْعِصْيَانِ
لَمْ يَنْفِ عَنْهُ مُطْلَقَ الْإِيمَانِ لَكِنْ بِقَدْرِ الْفِسْقِ وَالْمَعَاصِي
إِيمَانُهُ مَا زَالَ فِي انْتِقَاصِ وَلاَ نَقُولُ إِنَّهُ فِي النَّارِ
مُخَلَّدٌ، بَلْ أَمْرُهُ لِلْبَارِي تَحْتَ مَشِيئَةِ الْإِلَهِ النَّافِذَهْ
إِنْ شَا عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَا آخَذَهْ بِقَدْرِ ذَنْبِهِ، وَإِلَى الْجِنَانِ
يَخْرُجُ إِنْ مَاتَ عَلَى الْإِيمَانِ [11]
وهذا ما نعتقده، ونَدين الله به.
الحادي عشر: أنَّ الطاعات تُسمَّى إيمانًا ودِينًا، كما تشهَد بذلك نصوصُ الكتاب والسُّنة الصحيحة، فقدْ سمَّى الله الصلاةَ إيمانًا؛ كما في قوله – تعالى -: ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ﴾ [البقرة: 143]؛ أي: صلاتكم.
الثاني عشر: سؤال المرأة عمَّا أشكل عنها مِن أمور دِينها، فقدْ كانت النِّساءُ في عهد النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – يسألْنَه عمَّا أشكل عليهن؛ فعن أمِّ سلمة – رضي الله عنها – قالت: جاءتْ أمُّ سُليم إلى رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – فقالت: يا رسولَ الله، إنَّ الله لا يستحي من الحقِّ، فهل على المرأةِ غُسلٌ إذا احتلمت؟ فقال: ((نعم، إذا رأتِ الماء))[12].
الثالث عشر: خُطورة اللَّعْن، وأنَّه كبيرةٌ من الكبائر؛ لأنَّ الله توعَّد بالنار، ولا يتوعَّد بالنار إلا على كبيرةٍ من الكبائر.
الرابع عشر: خطورة جحْد المرأة لإحسانِ زوجها ومعروفه، ونِسيانها ذلك، فإنَّ ذلك من الكبائر، فإنَّ التوعُّد بالنار مِن علامة كون المعصية كبيرةً.
الخامس عشر: نُقصان عقل المرأة ودِينها، فأمَّا نقْص عقلها فشهادة امرأتين تعدِل شهادة رجل، وأمَّا نقصان دِينها، فإنَّها تمكُث الليالي ما تصلِّي، وتفطر في رمضان، وقد دلَّتْ نصوص الكتاب والسنة النبوية الصحيحة، وشواهد التاريخ، وحوادث الزمان، والدِّراسات الطبيَّة – على نقصان عقْل المرأة، وليس هذا مجالَ بسط ذلك.
وليس في ذلك هضمٌ لها، ولا نقصٌ لحقها، بل ذلك فِطرة فطرَها الله عليها، ولا اعتراض على حُكْمه، وهو أحكمُ الحاكمين.
السادس عشر: جواز إطلاق الكُفْر على غير الكُفر بالله – تعالى – ككُفْر العشير، والإحسان، والنِّعمة، والحق.
السابع عشر: جواز مراجعة المتعلِّم العالِم، والتابع المتبوع فيما قاله، إذا لم يظهرْ له معناه، كما فعلتْ هذه المرأة.
الثامن عشر: جواز إطلاق رمضان مِن غير إضافة إلى الشهر، وإنْ كان الاختيار إضافته، فيُقال: "شهر رمضان".
وفي الأخير: هذه جملةٌ مِن الفوائد الفريدة، والأحكام الفريدة المستفادَة مِن هذا الحديث.
وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمَّد، وعلى آله وصحْبه أجمعين.
——————————————————————————–
[1] رواه مسلم (79).
[2] رواه الترمذي (1987)، وقال: "حديث حسن"، وأحمد (21392)، وحسَّنه الألباني في صحيح الجامع الصغير، رقم (97).
[3] شرح صحيح البخاري لابن بطال (3/494) ابن بطال.
[4] رواه البخاري (6766)، ومسلم (4768).
[5] فيض القدير (6/57).
[6] رواه البخاري (1059)، ومسلم (912).
[7] رواه مسلم (901).
[8] رواه البخاري (29) من حديثِ عمران بن حصين – رضي الله عنه – ومسلم (2737) من حديث ابن عباس – رضي الله عنهما.
[9] معارج القبول (1/41) لحافظ حَكمي.
[10] رواه البخاري (6137).
[11] معارج القبول (1/41) لحافظ حكمي.
[12] رواه البخاري (5770).