تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » "رشيد" مدينة ضاحكة تعانق التاريخ!

"رشيد" مدينة ضاحكة تعانق التاريخ! 2024.

  • بواسطة
"جدّدي يا رشيدُ للحبّ عَهْدَا.. حَسْبُنا حسبُنا مِطالا وصدَّا
جدّدي يا مدينة السحرِ أحلاما.. وعْيشا طَلْقَ الأسارير رَغْدا
أرشيد وأنت جنة ُخُلْد.. لو أتاح الإلهُ في الأرضِ خُلدا
حين سَمّوْكِ وردة زُهِي الحسنُ.. وودّ الخدودُ لو كنّ وَرْدا
توّجتْ رأسَكِ الرمالُ بتبر.. وجرَى النيلُ تحت رِجْليْك شهدا
وأحاطت بكِ الخمائلُ زُهْرا.. كلُّ قَدٍّ فيها يعانقُ قَدّا
والنخيلُ النخيلُ أرخت شعورا.. مُرسَلاَتٍ ومدَّت الظلَّ مدّا
كالعذارَى يدنو بها الشوقُ قُرْبا.. ثم تنأَى مخافة اللّومِ بُعْدَا"
الأبيات السابقة مقتطفات من أجمل ما كتب شاعر العروبة علي الجارم، يمتدح فيها المدينة الساحرة التي ولد على أرضها، وهي مدينة "رشيد"، تلك المدينة التاريخية العتيقة التي تقع على ساحل مصر الشمالي، والتي يحمل اسمها ذلك الحجر الشهير الذي فك رموز اللغة الهيروغليفية، وقدم حضارة الفراعنة للعالم، والتي تحوي أيضا بين جنباتها آثارًا إسلامية تجعل منها متحفا عالميا مفتوحا.
الحديث عن "رشيد" يقودنا في البداية إلى اسمها؛ حيث كان يُطلق عليها في العصر الفرعوني "بولبتين"، ثم أطلق عليها أقباط مصر "رشيت"، وبعد ذلك أبدل حرف "التاء" بحرف "الدال" كما يحدث في معظم كلمات العامية المصرية وأصبح اسم المدينة الآن هو "رشيد".
أما الأوروبيون فقد أطلقوا عليها اسم "Rosetta"، أي زهرة النيل الصغيرة، وكان هذا بالطبع بسبب جمال المدينة، ووقوعها وسط حقول وبساتين تضفي مع نسيم البحر النقي عطرًا على المكان يشبه عطر الزهور، أما إضافة "صغيرة" إلى "الزهرة" فمن الواضح أنه كان للتدليل والاحتفاء الممزوج بالعشق والمداعبة لتلك المدينة التاريخية، ويبدو أن هذا الاحتفاء كان سببا في أن أطلق عليها بعض الرحالة لقب "المدينة الضاحكة"!
بنت النيل
تعتبر رشيد من أهم المدن على ساحل مصر الشمالي؛ حيث يمر بها أحد فرعي نهر النيل بعدما قسمته الدلتا إلى فرعين: دمياط ورشيد، وفيها ينهي النهر رحلته نحو مصبه في البحر المتوسط بعد أن يكون قد مر بتسع دول في القارة السمراء تنتهي بمصر.
ويتسم مشهد النيل في هذه المدينة باتساعه وهدوئه، ويكون المنظر بديعا وفريدا حينما تلتقي مياه النهر العذبة مع مياه البحر المالحة؛ لينطق المشهد بأسمى آيات القدرة الإلهية في خلق الكون.
في العصور القديمة كانت رشيد مدينة هامة وميناء عتيقا؛ حيث كانت أرضها تنمو حوالي 40 مترا سنويا داخل البحر المتوسط؛ حيث كان النيل يلقي بالطمي في البحر -قبل بناء السد العالي- ليفسح المجال لنمو مدينة رشيد، فصارت بحق "بنتا للنيل".
مدينة الصمود
كانت رشيد تُستخدم كميناء صغير حتى عام 1445م حينما احترقت مدينة دمياط وتم غزو الإسكندرية بقيادة ملك قبرص وبقايا الصليبين، فكان ذلك من أهم الأسباب التي أدت إلى سطوع نجم مدينة رشيد؛ فصارت ميناء لمصر طوال فترة الحكم العثماني، كما كانت معظم تجارة مصر تمر بها.
وحينما قام الإنجليز بمحاولتهم الفاشلة لاحتلال مصر عام 1807م فيما يعرف باسم "حملة فريزر"، تمكنوا من الاستيلاء على الإسكندرية دون مقاومة تذكر، إلا أنهم هُزموا في رشيد؛ حيث اختبأ الأهالي في منازلهم، وحينما دخل الجيش الإنجليزي المدينة وجدها خالية، ثم ما لبث أن انقض أهالي رشيد على المحتلين، ودافع أبطال المدينة من رجال ونساء وأطفال عن أرضهم باستماتة.
حجر رشيد
في عام 1799 ميلادية عثر جنود الحملة الفرنسية على أحد الأحجار الأثرية أثناء العمليات التي أجرتها الحملة في ترميم وتحصين قلعة قايتباي، وهي قلعة حربية أنشأها السلطان الجركسي الأشرف قايتباي عام 1479م، للتحكم في أمن مدينة رشيد ومجرى النيل عند المصب.
كان هذا الحجر غريبا عن أحجار البناء الأخرى والتي كانت من الحجر الجيري الأبيض، أما هو فكان من البازلت الأسود، وقد وجد الجنود عليه نصا مكتوبا باللغة اللاتينية ولغتين غريبتين -هما الديموطيقية والهيروغليفية- ولم يعرفوا حينذاك معنى تلك الكتابات الغريبة، حتى تمت ترجمة النص اللاتيني ووجد به اسم بطليموس الخامس الذي حكم مصر عام 196 ق.م، وبه اعتراف كهنة منف بتولي هذا الملك عرش البلاد.
كان هذا الحجر هو الأساس الذي استطاع من خلاله العالم الفرنسي الشهير "شامبليون" فك رموز اللغة الهيروغليفية عام 1822م، والذي استفاد كثيرا بترجمات العلماء السابقين في النصوص المشابهة، وقارن بينها وبين كل النصوص السابقة ليخرج للبشرية في ذلك العام بعلم "المصريات" الذي يدرس حاليا في معظم جامعات العالم، والذي فتح المجال لإعادة اكتشاف الحضارة المصرية الفرعونية التي أذهلت العالم المتلهف لمعرفة المزيد والمزيد عن أسرار ومعالم تلك الحضارة.
ويعرف هذا الحجر باسم "Rosetta Stone" أي "حجر رشيد"، وهو موجود حاليا في المتحف البريطاني بلندن؛ حيث إنه بعد هزيمة الفرنسيين وخروجهم من مصر آلت معظم مقتنيات الجنود الفرنسيين إلى الإنجليز تبعا لمبدأ الغالب والمغلوب ومعاهدة 1801 م، وبذلك "أعطى من لا يملك من لا يستحق"، بينما الملاك الحقيقيون يقفون صامتين!.
عمارة إسلامية
تتميز المدينة بآثارها المعمارية ذات الطابع والتصميم الزخرفي الفريد؛ مما جعلها بمثابة متحف مفتوح للعمارة الإسلامية يحتوي على منازل ومساجد مختلفة، منها المنازل الأثرية الباقية من العصر العثمانيوعددها 22 منزلا، وتتميز بتعدد الطوابق التي تصل في بعض الأحيان إلى خمسة وسبعة طوابق، وجميعها مبنية بالطوب الأحمر "المكحل" أو الطوب "المنجور"، الذي يُحرق مرتين في درجات حرارة مختلفة بحيث يأخذ درجات لون مختلفة، ويتم البناء به، ووضع تكحيل باللون الأبيض ليظهر الطوب بشكل جميل لا يوجد مطلقا في أي مدينة أخرى بمصر سوى رشيد.
من هذه المنازل منزل "الإمسيلي" وهو أحد القادة العسكريين، ويتكون من قاعة استقبال، و"سلاملك" وهو المكان المخصص لجلوس الرجال، و"حرملك" وهو مخصص لجلوس النساء، ويوجد به أيضا قاعتان للمغاني تحتويان على دواليب حائطية مطعمة بالعاج والصدف، وبها الأحجبة المخروطة ذات الأشكال المختلفة، وملحق بهذا المنزل طاحونة كانت تدار بواسطة الدواب.
هناك أيضا منزل "الميزوني" الذي أنشأه عبد الرحمن الميزوني، وهو جد "زبيدة" المصرية المسلمة التي تزوجها القائد الفرنسي "مينو" بعد أن أسلم وسمى نفسه "عبد الله"، ويتميز هذا المنزل بأنه يحتوي على عدد كبير من البلاطات الخزفية من مختلف الأشكال الأندلسية، والمغربية، والتركية.
هذا إضافة إلى العديد من المنازل الأخرى منها منزل "ابن زبيد"، ومنزل "محمد عبد الهادي المغربي"، و"رمضان بيك"، و"الفطاطري"، و"أغا"، و"عرب كلي"، و"المناديلي"، و"التوقاتلي"، وغيرها من المنازل القديمة التي تحمل الطابع الشرقي الإسلامي النادر جدا، والمطعم بالأرابيسك والأصداف والأحجار الكريمة.
وبشكل عام فإن عمارة منازل رشيد تتميز ببراعة وجمال أعمال الخشب والنجارة، كما أن واجهتها تعتبر تحفة فنية؛ نظرا لتنوع الشبابيك والخرط والمشربيات، إضافة إلى احتوائها على بعض الكتابات الدينية والزخرفية، ومعظمها ملحق به أسبلة ووكالات تجارية.
أما المساجد فمن أهمها مسجد "دومقسيس" الذي أنشأه "صالح أغا دومقسيس" عام 1116هـ، وللمسجد مئذنة ذات طبيعة خاصة بمدينة رشيد، وهي تسمى "الجربوشة"، ويقول العلماء إنها تشبه "الشمعة" إلى حد ما.
ومن بين مساجد رشيد الأثرية أيضا مسجد "زغلول" الذي تأسس عام 1600 ميلادية، إضافة إلى مساجد "الشيخ يوسف"، و"الجندي"، و"عبد الله الصامت"، و"أبو مندور"، و"قلعة قايتباي"، و"العباسي"، و"المسجد المعلق"، وغيرها من المساجد التي ترجع في معظمها إلى العصر العثماني، وتم بناؤها باستخدام الطوب "المنجور"، والأسقف الخشبية متعددة الطبقات، والأعمدة الرخامية والجرانيتية القديمة، والوحدات الزخرفية ذات الأشكال الهندسية البديعة.
وتشتهر المدينة الآن بصناعة المراكب الصغيرة للصيد في النهر والبحر، وصناعة الأسماك المملحة، ونظرًا لهذا كله فقد أولت الدولة المصرية اهتماما كبيرا بالمدينة؛ حيث أنشأت حاجزا للأمواج لحماية ساحل المدينة من التآكل، كما تنفذ وزارة الثقافة المصرية ترميمات واسعة لمنشآت رشيد الأثرية؛ لتصبح المدينة متحفا مفتوحا للعمارة والفنون الإسلامية.. لتبقى ذاكرة "رشيد" التاريخية إرثا يتوارثه أبناء المدينة ويتفاخرون به.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.