وحكي قتادة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (ما أشك ولا أسأل) وعامة المفسرين على هذا واختلفوا في معني الآية فقيل: المراد (قل يا محمد للشاكِّ: إن كنت في شكٍّ (الآية) وقالوا: وفي السورة نفسها ما دَلَّ على هذا التأويل وهو قوله {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي}وقيل: المراد بالخطاب العرب وغير النبي كما قال {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} الخطاب له والمراد غيره ومثله {فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هَـؤُلاء} ونظيره كثير ألا تراه يقول {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللّهِ} وهو صلى الله عليه وسلم المُكَذَّبُ (بفتح الذال المعجمة المشددة) فيما يدعو إليه فكيف يكون مِمَّنْ كَذَّبَ به؟ فهذا كله يدل على أن المراد بالخطاب غيره ومثل هذه الآية قوله{الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} المأمور هاهنا غير النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ليسأل النَّبِيَّ والنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هو الخبيرُ المسئول لا المُسْتَخْبِرُ السائل
وقيل: إن هذا الشك الذي أُمر به غَيْرُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم – بسؤال الذين يقرؤون الكتاب – إنما هو فيما قصَّه الله من أخبار الأمم لا فيما دعا إليه من التوحيد والشريعة ومثل هذا قوله تعالى {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا} المراد: المشركون والخطاب لوحه للنَّبِيِّ وقيل معناه (سلنا عمن أرسلنا من قبلك) فحذف الخافض وتم الكلام ثم ابتدأ: {أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ} إلى آخر الآية على طريقة الإنكار أي (ما جعلنا) وقيل: أمر النبيّ أن يسأل الأنبياء ليلة الإسراء عن ذلك فكان أشد يقيناً من أن يحتاج إلى السؤال فروي أنه قال (لا أسأل قد اكتُفيت)
وقيل (سَلْ أُمَمَ مَنْ أرسلنا هل جاءوهم بغير التوحيد؟) وهو معني قول مجاهد والسدي والضحاك وقتادة والمراد بهذا والذي قبله: إعلامه صلى الله عليه وسلم بما بُعِثَتْ به الرسل وأنه تعالى لم يأذن في عبادة غيره لأحد ردًّا على مشركي العرب وغيرهم في قولهم{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} ومن ذلك قوله تعالي {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } أي في علمهم بأنك رسول الله وإن لم يقرُّوا بذلك وليس المراد به شكُّه فيما ذكر في أول الآية وقد يكون أيضا على مثل ما تقدم أي: قل يا محمد لمن افتري في ذلك (لا تكونن من الممترين) بدليل قوله أول الآية {أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَماً} وأن النَّبِيَّ يخاطب بذلك غيره وقيل: هو تقرير كقوله{أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ}وقد عُلِمَ أنه لم يقل وقيل: معناه ما كنت في شك فأسأل تزدد طمأنينة وعلماً إلى علمك ويقينك
وقيل: إن كنت تشك فيما شرَّفناك وفضَّلناك به فاسألهم عن صفتك في الكتب ونشر فضائلك وحكي عن أبي عبيدة أن المراد: إن كنت في شك من غيرك فيما أنزلنا. فإن قيل: فما معني قوله{حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ} على قراءة التخفيف؟ قلنا: المعني في ذلك ما قالته السيدة عائشة (معاذ الله أن تظن ذلك الرُّسُلُ بربِّها وإنما معني ذلك أن الرسل لما استيأسوا ظنوا أن من وَعَدَهُم النصر من أتباعهم كذبوهم) وعلي هذا أكثر المفسرين وقيل إن ضمير {وَظَنُّواْ} عائد على الأتباع والأمم لا على الأنبياء والرسل وهو قول ابن عباس والنخعي وابن جبير وجماعة من العلماء وبهذا المعني قرأ مجاهد (كذبوا) فلا تشغل بالك من شاذ التفسير بسواه مما يليق بمنصب العلماء فكيف بالأنبياء
ومن ذلك قوله لسيدنا محمد {وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} فإن بعضهم فسَّرها بأن معناها: لا تكونن ممن يجهل أن الله لو شاء لجمعهم على الهدي وهذا أمر باطل فإن أقل الناس إيماناً لا يجهل أن الله لو شاء لجمعهم على الهدي فكيف بسيِّدِ أهل الإيمان؟ إذ فيه إثبات الجهل بصفة من صفات الله وذلك لا يجوز على الأنبياء ونقول: أن المقصود هو وعظه صلى الله عليه وسلم أن لا يتشبه في أموره بسمات الجاهلين وقيل: أنه خطاب للأمة المحمدية والمعني: فلا تكونوا من الجاهلين ومن ذلك قوله تعالي {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} وقوله تعالي {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ} وقوله تعالى {إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} وقوله تعالي {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ } وقوله {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ} وقوله{فَإِن يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ}
وقوله {وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} وقوله {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ}فاعلم – وفقنا الله وإياك أنه صلى الله عليه وسلم لا يصح ولا يجوز عليه أن لا يبلِّغ ولا أن يُخالف أمر ربِّه ولا أن يُشرك به ولا يتقوَّل على الله ما لا يجب أو يَفْتَرِي عليه أو يَضِلَ أو يختم على قلبه أو يطيع الكافرين لكن يسَّر أمره بالمكاشفة والبيان في البلاغ للمخالفين وأن بلاغه إن لم يكن بهذه السبيل فكأنه ما بلَّغ وطيَّب نفسه وقوَّي قلبه بقوله { وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} وأما قوله {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ} وقوله {إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ} فمعناه أن هذا جزاء من فعل هذا وجزاؤك لو كنت ممن يفعله، وهو لا يفعله وكذلك قوله {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ} فالمراد غيره كما قال{إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ} وقوله{ فَإِن يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} وقوله {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} وما أشبهه فالمراد غيره وأن هذه حال من أشرك والنَّبِيُّ لا يجوز عليه هذا وقوله {اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} فليس فيه أنه أطاعهم والله ينهاه عما يشاء ويأمره بما يشاء كما قال{وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم} وما كان طردهم صلى الله عليه وسلم ولا كان من الظالمين.
منقول من كتاب [الكمالات المحمدية]