تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » حكم البقاء عند الزوجة الجديدة

حكم البقاء عند الزوجة الجديدة 2024.

حكم البقاء عند الزوجة الجديدة

الحمد لله رب العالمين، الهادي إلى سواء السبيل، الفعال لما يريد، خلق فسوّى، وقدر فهدى، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين والأنبياء، محمد – صلى الله عليه، وعلى آله وسلم – وعلى أصحابه أجمعين، وعلى التابعين، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فقد جعل الله – عز وجل – حكماً شرعياً لكل أمر من أمور الإنسان في هذه الدنيا، فما من مسألة من المسائل، إلا وللشرع فيها حكمٌ، حكمَ الله به، أو حكم به رسوله – صلى الله عليه وسلم – وذلك تحقيقاً للمصلحة الشرعية التي أرادها الشرع، أو درءاً لمفسدة أراد الشرع درءها أيضاً.
ومن هذه المسائل: تنظيم العلاقة بين الرجل وبين زوجتيه القديمة منهن والجديدة، وذلك من أول يوم تدخل فيه هذه الزوجة الجديدة؛ وذلك للحفاظ على حق كل واحدة منهن من دون اعتداءٍ أو تعدٍ على حق الأخرى، ولذلك عزمت مستعيناً بالله تعالى على بيان هذه الحقوق التي تستحقها الزوجة الجديدة؛ لتنتنظم العلاقة بين الزوجتين انتظاماً صحيحاً، مبني على أصلٍ شرعيٍ متينٍ، فتستقيم الحياة بذلك من أول يوم؛ لأن الأيام الأولى التي تدخل فيها الزوجة الجديدة عش زوجها هي أهم الأيام وأصعبها – في نظري – على كل من الزوجتين، وعلى الزوج أيضاً؛ ولذا فإن انتظام العلاقة – بينهن وبينه، وبين كل واحدة منهن مع صاحبتها – انتظاماً سليماً من أول يوم هي الخطوة الأهم في سير الحياة سيراً صحيحاً فيما بعد، حتى لا يَظلم الزوج إحدى الزوجتين؛ فيؤدي ذلك إلى المعصية، ويؤدي ذلك أيضاً إلى التباغض والتحاسد بينهن، وحتى لا يعيش الزوج بين نارٍ تشتعل عليه من جانبِ كل واحدةِ منهن؛ بسبب غيرة بعضهن من بعض.
وسأبدأ حديثي ببعض المقدمات التي لا بد من ذكرها، وذلك كالآتي:
1. تعريف البكر.
2. تعريف الثيب.
3. الأحاديث الواردة في بقاء الزوج عند زوجته بكراً كانت أم ثيباً.
4. معنى البقاء عند الزوجة.
5. حكم البقاء عند الزوجة.
6. هل البقاء عند الزوجة حق للزوج أم حق لها.
7. مقدار البقاء عند الزوجة.
8. تخيير الثيب بين الثلاث والسبع.
9. هل هذا الحكم لمن كان له زوجة من قبل؟
10. حكم ما لو أقام عند الثيب سبعاً.
فأقول مستعيناً بالله تعالى، وهو حسبي ونِعم الوكيل:
تعريف البكر:
قال الصاحب بن عباد: (والبِكْرُ من النِّساء: التي لم تُمْسَسْ بَعْدُ. وأوَّلُ وَلَدِ الرَّجُل ذَكراً كانَ أو أُنثى. وأوَّلُ كل أمْرٍ. والكَرْمُ الذي حَمَلَ أوَّلَ مَرَّةٍ، وجَمْعُه أبْكارٌ)(1) ، وقال الفيروز آبادي: (والبِكْرُ، بالكسر العَذْراءُ، الجمع أبْكارٌ، والمَصْدَرُ البَكارَةُ – بالفتح – والمرأةُ، والناقةُ إذا ولَدَتَا بَطْناً واحداً، وأوَّلُ كُلِّ شيءٍ، وكُلُّ فَعْلَةٍ لم يَتَقَدَّمْها مِثْلُها، وبَقَرَةٌ لم تَحْمِلْ، أو الفَتِيَّةُ، والسحابَةُ الغزيرةُ، وأوَّلُ ولَدِ الْأَبَوَيْنِ، والكَرْمُ حَمَلَ أوَّلَ مَرَّةٍ)(2)، وقال الجوهري: (البِكْرُ: العذراءُ؛ والجمع أَبْكارٌ، والمصدر البَكارَةُ بالفتح. والبِكْرُ: المرأةُ التي ولدتْ بطناً واحداً. وبِكْرُها: ولدُها. والذكَر والأنثى فيه سواء)(3).
تعريف الثيب:
من ثَوَبَ. قال الصاحب بن عباد: (الثَّيِّبُ: التي قد تَزَوَّجَتْ فَثَابَتْ بوَجْهٍ مّا كانَ، والجَمِيْعُ الثَّيَائِبُ، والثَّيِّبَاتُ. وهي أيضاً: التي ثَابَ إليها عَقْلُها. وثَيَّبَتِ المَرْأَةُ: صارَتْ ثَيِّباً)(4)، وقال الجوهري: (ورجل ثَيِّبٌ وامرأةٌ ثيِّبٌ، الذكر والأنثى فيه سواءٌ. قال ابن السكيت: وذلك إذا كانت المرأة قد دُخِلَ بها، أو كان الرجل قد دَخَل بامرأته. تقول منه: قد ثُيَّبَتِ المرأةُ)(5).
الأحاديث الواردة في بقاء الزوج عند زوجته بكراً كانت أم ثيباً:
عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: " السنة إذا تزوج البكر عل الثيب أقام عندها سبعاً، وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثاً "(6).
وعن أم سلمة- رضي الله عنها – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لما تزوج أم سلمة أقام عندها ثلاثاً، وقال: " إنه ليس بك على أهلك هوان، إن شئت سبعت لك، وإن سبعت لك سبعت لنسائي "(7)، وفي رواية أنه لما دخل عليها، وأراد أن يخرج أخذت بثوبه. فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: " إن شئت زِدّتك وحاسبتك به. للبكر سبع، وللثيب ثلاث "(8).
قال النووي: (بيَّن صلى الله عليه وسلم حقها، وأنها مخيرة بين ثلاث بلا قضاء، وبين سبع ويقضي لباقي نسائه؛ لأن في الثلاثة مزية بعدم القضاء، وفي السبع مزية لها بتواليها وكمال الأُنس فيها، فاختارت الثلاث؛ لكونها لا تُقضى، وليقرب عوده إليها؛ فإنه يطوف عليهن ليلةً ليلة ثم يأتيها، ولو أخذت سبعاً طاف بعد ذلك عليهن سبعاً سبعاً، فطالت غيبته عنها)(9).
وعن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم- يقول:" للبكر سبعة أيام، وللثيب ثلاث، ثم يعود إلى نسائه "(10).
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي – صلى الله عليه وسلم- قال:" إذا تزوج الثيب، فلها ثلاث، ثم يقسم"(11).
وعن عائشة – رضي الله عنها – عن النبي – صلى الله عليه وسلم- قال:" البكر إذا نكحها رجل، وله نساء، لها ثلاث ليال، وللثيب ليلتان"(12).

الأفعال التي يشرع للزوج الخروج لها في مدة بقائه عند الزوجة الجديدة:
اختلف العلماء في الأفعال التي يشرع للزوج الخروج لها في مدة بقائه عند الزوجة الجديدة، على أقوال ملخصها كالآتي:
1. يكره أن يتأخر في السبع أو الثلاث عن صلاة الجماعة، وسائر أعمال البر(13). روى ابن القاسم عن مالك قوله: لا يتخلف عنها. وعللوا ذلك بقولهم: إن كان البقاء عندها حقاً للزوج، فإن الزوجة لا تملكه، وإن كان حقاً لها، فإنها لا تملك من هذا الوقت، إلا ما زاد على وقت أداء الصلاة(14). قال العدوي في حاشيته على شرح كفاية الطالب من كتب المالكية: (والإقامة المذكورة لا تنافي الخروج لقضاء مصالحه، وصلاته الجمعة، وحضور الجماعة)(15).
2. يكره أن يتأخر في السبع أو الثلاث، عن صلاة الجماعة، وسائر أعماله في النهار، وأما في الليل فلا، لأن المندوب لا يترك له الواجب(16). قال في الإقناع: (ولا يتخلف بسبب ذلك عن الخروج للجماعات، وسائر أعمال البر، كعيادة المرضى، وتشييع الجنائز مدة الزفاف، إلا ليلاً، فيتخلف وجوباً؛ تقديماً للواجب، وهذا ما جرى عليه الشيخان، وإن خالف فيه بعض المتأخرين)(17).
3. وقد جعل بعض الفقهاء مقامه عندها عذراً في إسقاط الجمعة(18)، قال سحنون: وقد قال بعض الناس إنه لا يخرج، وذلك حق لها بالسنة. ووجه روايته: أن من ملك منافع أجير في مدة ما، فإنه بذلك تسقط عنه فرائض الجمعة، وحقوق إتيان الجماعات كالسيد في عبده(19). (قلت): وهذا إفراط؛ لأن قياس الزوج على العبد أو الأجير قياس مع الفارق؛ لأن العبد والأجير محكومٌ بالسيد والمؤجِّر، بخلاف الزوج فليس محكوماً بالزوجة؛ لأنه هو الحاكم وليس المحكوم؛ لأن القوامة له لا لها.
4. وقال أصحاب الشافعي: يسوِّي بين الزوجات في الخروج إلى الجماعة، وفي سائر أعمال البر، فيخرج في ليالي الكل، أو لا يخرج أصلاً، فإن خَصَّصَ حرُم عليه، وعدُّوا هذا من الأعذار في ترك الجماعة(20). لكن الشافعي لم ير ذلك عذراً للتخلف عن صلاة الجماعة، ولا عن عيادة مريض، ولا عن شهود جنازة، ولا عن إجابة وليمة. قال النووي: (قال في الأم: ولا أحب أن يتخلف عن صلاة الجماعة، ولا يمنعه من عيادة مريض، ولا شهود جنازة، ولا إجابة وليمة. وجملة ذلك أنه إذا أقام عند الجديدة بحق العقد، فهو كالقسم الدائم، فعِماده الليل. وأما بالنهار فله أن ينصرف إلى طلب معاشه، ويصلى مع الجماعة، ويشهد الجنازة، ويعود المريض، ويجيب الولائم؛ لأن الإيواء بالنهار عندها مباح. وهذه الأشياء طاعات، فلا يترك الطاعات للمباح. قال ابن الصباغ: فأما بالليل، فقال أصحابنا: لا يخرج فيه لشيء من ذلك؛ لأن حق الزوجة فيه واجب، وما يخرج له فليس بواجب، بخلاف السكون عندها بالنهار، فإنه ليس بواجب)(21)، وقال ابن قدامة: (وله أن يخرج في نهار ليل القسم لمعاشه، وقضاء حقوق الناس؛ لقوله تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً ﴾ [النبأ:11،12]، وقال تعالى ﴿ وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [القصص: 73]، أي لتسكنوا في الليل، ولتبتغوا من فضله في النهار) ثم قال: (وله الخروج إلى صلاة الجماعة؛ فإن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يترك الجماعة لذلك. ويخرج لما لابد له منه فإن أطال [أي الخروج] قضاه، ولا يقضي اليسير)(22).
وخلاصة هذه الأقوال ما قاله ابن حجر حيث قال: (يكره أن يتأخر في السبع أو الثلاث عن صلاة الجماعة، وسائر أعمال البر التي كان يفعلها؛ نص عليه الشافعي. وقال الرافعي: هذا في النهار، وأما في الليل فلا؛ لأن المندوب لا يترك له الواجب، وقد قال الأصحاب: يسوي بين الزوجات في الخروج إلى الجماعة، وفي سائر أعمال البر، فيخرج في ليالي الكل أو لا يخرج أصلاً، فإن خصص حرم عليه، وعدوا هذا من الأعذار في ترك الجماعة. وقال ابن دقيق العيد: أفرط بعض الفقهاء فجعل مقامه عندها عذراً في إسقاط الجمعة، وبالغ في التشنيع. وأجيب بأنه قياس قول من يقول بوجوب المقام عندها، وهو قول الشافعية، ورواه ابن القاسم عن مالك، وعنه: يستحب وهو وجه للشافعية، فعلى الأصح يتعارض عنده الواجبان، فقدم حق الآدمي، هذا توجيهه، فليس بشنيع وإن كان مرجوحاً)(23).
وقد نقل المزني عن الشافعي قوله: (ولا أحب أن يتخلف عن صلاة مكتوبة، ولا شهود جنازة، ولا بر كان يفعله، ولا إجابة دعوة)(24).
ونقل الحطاب الرعيني عن ابن القاسم من المالكية قوله: (لا يتخلف العروس عن الجمعة، ولا عن الصلاة في جماعة. وعن سحنون قال: بعض الناس لا يخرج، وهو حق لها بالسنة)، وعن ابن حبيب: يتصرف في حوائجه، وإلى المسجد. والعادة اليوم أن لا يخرج ولا لصلاة. ثم قال: وأرى أن يلزم العادة)(25).

حكم البقاء عند الزوجة الجديدة:

واختلفوا في مدة المقام عند البكر والثيب إذا كان له زوجة أخرى هل هو واجب أم مستحب؟
1. فمذهب الشافعي وأصحابه وموافقيهم أنه واجب، وهي رواية ابن القاسم عن مالك(26).
2. وروي ابن عبد الحكم عن مالك أنه مستحب، وهو وجه للشافعية(27).
(قلت): والظاهر الوجوب لما أفادت رواية أنس المتقدمة، وفيها " للبكر سبعة أيام، وللثيب ثلاث "، وكذا رواية عمرو بن شعيب المتقدمة، وفيها " إذا تزوج الثيب، فلها ثلاث، ثم يقسم ". وهذه صيغ تدل على الوجوب.

هل البقاء عند الزوجة حق للزوج أم حق لها:
ذهب جماهير أهل العلم، وهو مذهب الشافعية: إلى أن البقاء عند الزوجة الجديدة حقٌ لها، وليس حقاً للزوج.
قال النووي: (واختلف العلماء في أن هذا الحق للزوج أو للزوجة الجديدة. ومذهبنا ومذهب الجمهور أنه حق لها)(28)، وقال في فتح الوهاب: (والعدد المذكور واجب على الزوج؛ لتزول الحشمة بينهما، وزِيد للبكر؛ لأن حياءها أكثر)(29). وهذا هو المعتمد عند المالكية. قال العدوي المالكي: (وظاهر [الرواية] الثانية: أنه حق الزوجة، وهو المذهب، فيُقضى عليه به)(30)، وهي رواية أشهب. وعليه لا يجوز له ترك المقام عندها إلا بإذنها)(31)، وقال في المدونة: (ومما يدلك على ذلك قول النبي – صلى الله عليه وسلم – لأم سلمة، وقول أنس بن مالك: للبكر سبع، وللثيب ثلاث، فأخبر في حديث أنس بن مالك أن هذا للنساء ليس للرجال، ومما صنع النبي – صلى الله عليه وسلم – حين خيّر أم سلمة، فهذا يدلك أن الحق لها، ولولا ذلك ما خيرها)(32). وقد وجَّه الباجي المالكي هذا القول، بأنه حقٌ قد ورد ذكره في حديث أنس المتقدم: " للبكر سبع وللثيب ثلاث "، وبأن الغرض من بقائه عندها هو تأنيسها وبسطها، وإذهاب ما يلحقها من الانقباض والخجل، وهذا من حقوقها، ومن جهة المعنى.(33)
والقول الثاني، وهو رواية ابن القاسم(34) من المالكية: أنه حق للزوج. ووجه هذا القول هو ما ورد في حديث أم سلمة:" ليس بك على أهلك هوان. إن شئت سبعت عندك، وإن شئت ثلثت ودرت "، فأخبر بأن ذلك على وجه الإكرام، فالظاهر أنه ليس من حقوقها؛ لأن الإكرام لا يستعمل في إيتاء الحقوق، وإنما يستعمل في إعطاء ما ليس بحق للمكروم، ولو كان ذلك من حقوقها، لقال ليس بنا منع حقك(35). وعلى هذا القول يكون الخيار للزوج بين البقاء عندها وعدمه(36). قال الحطّاب: (وفي كونه حقاً لها أو له؟ نقل الصقلي روايتي ابن القاسم وأشهب)(37).
وثمرة هذين القولين تظهر في قول القاضي أبي محمد المالكي: (وفائدة الخلاف أنه إذا كان حقاً له جاز له فعله وتركه، وإذا كان حقاً للزوجة لم يكن له تركه إلا بإذنها).(38) وقد سبقت الإشارة إليه.
وهناك قول ثالث في هذه المسألة نُقل عن المالكية هو: إنه حق لها يُؤمر به، ولا يجبر عليه(39). ولعل المقصود بهذا القول أن البقاء عندها مأمور به شرعاً فيما بينه وبين الله تعالى، ولكنه غير مأمور به قضاءً.
ونقل عن ابن القصار قول رابع هو: إنه حق لهما(40). وهذا ما حكاه القاضي أبو الحسن المالكي، وهم ما صححه الباجي(41).
وقال بعض المالكية: هو حق له على بقية نسائه(42). وهو قول خامس في المسألة.
وأما هل تجب الموالاة في هذه المدة. فقد أجاب عن ذلك ابن حجر حيث قال: (وتجب الموالاة في السبع وفي الثلاث، فلو فَرَّق لم يحسب على الراجح؛ لأن الحشمة لا تزول به)(43)، وبنحوه ذكر الحطاب الرعيني عن المالكية(44)، وقد ذكر الأنصاري الشافعي وجوب كون هذه الثلاث أو السبع متواليات، فقال: (فلو فرَّقها لم تحسب وقضاها لها متوالياً، وقضى بعد ذلك للأخريات ما فرق)(45).

مقدار البقاء عند الزوجة:
مقدار البقاء عند الزوجة يختلف بحسب اختلاف حال المرأة، إذ الزوجة إما أن تكون بكراً، وإما أن تكون ثيباً، ولكل واحدةٍ منهن حكمها. وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال، وهي كالآتي:
1. فقال الشافعي وموافقوه: إن كانت بكراً، لها سبع ليال بأيامها بلا قضاء، وإن كانت ثيباً، كان لها الخيار، إن شاءت سبعاً، ويقضي السبع لباقي النساء، وإن شاءت ثلاثاً ولا يقضي، وهذا ما جاءت به الأحاديث الصحيحة المتقدمة، وممن قال بهذا القول من الصحابة أنس، ومن التابعين فمن بعدهم النخعي، والشعبي، والشافعي، وأحمد بن حنبل(46)، وقال به أيضاً مالك، وإسحاق، وأبو ثور، وابن جرير، وجمهور العلماء(47). قال الشافعي: (وإذا نكح الرجل امرأة، فبنى بها، فحالُها غيرُ حال من عنده، فإن كانت بكراً، كان له أن يقيم عندها سبعة أيام، وإن كانت ثيباً كان له أن يقيم عندها ثلاثة أيام ولياليهن، ثم يبتدئ القسمة لنسائه، فتكون واحدة منهن بعد مضى أيامها، ليس له أن يفضلها عليهن)(48). ونقل المزني عن الشافعي قوله في الأحاديث المتقدمة: (دليلٌ على أن الرجل إذا تزوج البكر فعليه أن يقيم عندها سبعاً، والثيب ثلاثاً، ولا يحتسب عليه بها نساؤه اللاتي عنده قبلها)(49)، وقال ابن قدامة: (وإذا تزوج بكراً أقام عندها سبعاً، ثم دار، وإن كانت ثيباً أقام عندها ثلاثاً، ثم دار)(50).
وحُجّة جمهور العلماء هذه الأحاديث المتقدمة، وهي مخصصة للظواهر العامة(51)، ولأن الزوجة الجديدة يلحقها من الاستيحاش والانقباض ما يحتاج به إلى التأنيس، وذاك لا يكون إلا بطول المقام عندها، ولما كانت البكر أكثر حياءً وانقباضاً، احتاجت من التأنيس أكثر مما تحتاجه الثيب(52). قال الأنصاري: _ذكر القفال في محاسن الشريعة، أن المعنى فيه: ميل النفس للجديدة، فلا يلحقهن باختصاصها بأيام مثلها غضاضة، ولا يتصور ذلك عندهم بصورة الظلم)(53).
وهذا التعليل على أصل من جعل البقاء عند الزوجة الجديدة حقاً للزوجة، كما تقدم، وأما على أصل من جعله حقاً للزوج، فقد قال القاضي أبو محمد المالكي: لما كان التذاذ الزوج بالزوجة الجديدة أكثر من التذاذه بالقديمة، جُعِل له من المقام عندها ما يصل به إلى ذلك(54)، وقال في المدونة: (قلت: أرأيت الرجل يتزوج البكر، كم يكون لها من الحق أن يقيم عندها، ولا يحسبه عليها في القسم بين نسائه؟ قال: قال مالك: سبعة أيام)(55). وقال عن الثيب: (قلت: أرأيت الثيب كم يكون لها؟ قال: ثلاث)(56).
قال الحطّاب الرعيني المالكي: (ومن له زوجة أو أكثر وتزوج أخرى قُضِي على الزوج للزوجة البكر – ولو أمة – تزوجها على زوجة حرة، بسبعٍ من الليالي يبيتها عندها متوالية؛ لأنها – أي الليالي – حقها، وقُضِي للزوجة الثيب التي تزوجها على غيرها – ولو أمة على حرة – بثلاثٍ من الليالي متواليات يبيتها عندها، ويُخيَّر بعد تمام السبع أو الثلاث في البدء في القسم بمن شاء)(57).
2. وقال حماد بن أبي سليمان وأبو حنيفة: لا تفضَّل الجديدة على القديمة بكراً كانت أو ثيباً(58)، وأنهما سواء في الثلاث(59).
وقد استدلوا على ذلك بظاهر النصوص الشرعية الواردة في الأمر بالعدل بين الزوجات(60). قال في تبيين الحقائق: (البكر كالثيب، والجديدة كالقديمة، والمسلمة كالكتابية فيه، أي في القسم؛ لقوله تعالى:﴿ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ ﴾ [النساء: 3] معناه: أن لا تجوروا، وقوله تعالى:﴿ وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ ﴾ [النساء: 129]، وقوله عليه الصلاة والسلام:" من كانت له امرأتان، فمال إلى إحداهما، جاء يوم القيامة وشقه مائل "(61)، وعن عائشة – رضي الله عنها – أنها قالت: كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقسم فيعدل، ويقول:" اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك "(62) يعني زيادة المحبة. ثم قال: وهذه النصوص عامة في النساء، فيُسوّي بين الجديدة والقديمة، والبكر والثيب…)(63)، وقال السرخسي: (وحجتنا في ذلك أن سبب وجوب التسوية؛ اجتماعها في نكاحه، وقد تحقق ذلك بنفس العقد، ولو وجب تفضيل إحداهما كانت القديمة أولى بذلك؛ لأن الوحشة في جانبها أكثر، حيث أُدخِل غيرها عليها، فإن ذلك يغيظها عادة، ولأن للقديمة زيادة حُرمة بسبب الخِدمة، كما يقال لكل جديد لذة، ولكل قديم حرمة) (64).
وقد أوَّل السرخسي حديث أم سلمة فقال: (وأما الحديث: فالمراد التفضيل بالبداية دون الزيادة، كما ذكر في حديث أم سلمة – رضي الله تعالى عنها – " إن شئت سبعت لك، وسبعت لهن "، وقوله: " إن شئت ثلثت لك، ثم دُرت " أي أخبرت بمثل ذلك على كل واحدة منهن. ونحن نقول به: إن للزوج أن يبدأ بالجديدة؛ لما له في ذلك من اللذة، ولكن بعد أن يسوي بينهما)(65).
قلت: وهذا تأويل بعيد، لا مبرر له، ولم يوجد مانع من حمل الحديث على ظاهره، حتى نلجأ إلى هذا التأويل، والأصل عدم التأويل، ولا يُلجأ إلى التأويل، إلا عند تعذر حمل اللفظ على ظاهره، وهو هنا غير متعذر.
وقد ردّ الجمهور على أبي حنيفة وحماد بألا تعارض بين حديث أم سلمة وأمثاله مع أحاديث العدل بين النساء؛ لأن حديث أم سلمة حديث خاصٌ بأيام الزواج الأولى، والنصوص الدالة على العدل بين النساء عامة، تعم أيام الزواج الأولى وغيرها، ولا تعارض بين عامٍ وخاص، فيُعمل بالخاص (وهو حديث أم سلمة) فيما تناوله، ويُعمل بالعام (وهي نصوص العدل بين الزوجات) في الباقي، وقد ذكر معنى ذلك المباركفوري في شرح الترمذي(66).
3. وقال الأوزاعي: للبكر ثلاث، وللثيب يومان(67)، وهو ما ذهب إليه سعيد بن المسيب، والحسن البصري(68)، ولكن النووي نقل عن ابن المسيب والحسن البصري خلاف ذلك، فقال: (وقال ابن المسيب والحسن البصري: يقيم عندها إذا كانت بكراً ليلتين، وعند الثيب ليلة)(69). قال ابن حجر: وفيه حديث مرفوع عن عائشة أخرجه الدارقطني بسند ضعيف جداً(70).
قال ابن قدامة: (فإن تعذر عليه المقام عندها [ أي المزفوفة] ليلاً لشغلٍ، أو حبسٍ، أو ترك ذلك لغير عذر، قضاه لها)(71).

تخيير الثيب بين البقاء عندها ثلاثاً أو سبعاً:
وأما تخيير الثيب بين الثلاث بلا قضاء، والسبع مع القضاء، فقد قال بجواز ذلك الشافعي وأحمد والجمهور(72). وقد استدلوا على جواز ذلك بحديث أم سلمة المتقدم. وفيه أن النبي – صلى الله عليه وسلم – خيَّرها.
وقال مالك وأصحابه: لا تخيير بل للبكر الجديدة سبعٌ، وللثيب ثلاث، بدون التخيير وبدون القضاء(73). قال المباركفوري: واعتذر أصحاب مالك عن حديث أم سلمة الدال صريحاً على التخيير، بأن مالكاً رأى ذلك من خصائص النبي – صلى الله عليه وسلم – لأنه خُصّ في النكاح بخصائص. فاحتمال الخصوصية مُنِع من الأخذ به. وفيه ضعف ظاهر؛ لأن مجرد الاحتمال لا يمنع من الاستدلال بالحديث(74).
(قلت): ويمكن القول أيضاً بأن الأصل عدم الخصوصية، ومن ادعى الخصوصية، فعليه بالدليل، وهو غير موجود هنا.

هل هذا الحكم لمن كان له زوجة من قبل؟
نقل النووي عن ابن عبد البر قولاً عن جمهور العلماء أن ذلك حق للمرأة بسبب الزفاف، سواء كان عنده زوجة أم لا، وهذا ما رجحه ابن حجر الشافعي(75)، قال ابن حجر: (وقال ابن عبد البر: جمهور العلماء على أن ذلك حق للمرأة بسبب الزفاف، وسواء كان عنده زوجة أم لا. وهو الذي اختاره النووي أن لا فرق، وإطلاق الشافعي يعضده)(76)، وهذا القول هو ما قاله ابن عبد الحكم من المالكية(77). ونقل في المنتقى على الموطأ أن هذا مذهب ابن حبيب والقاضي عياض المالكيان(78)وغيرهما. وهذا القول هو مذهب الحنابلة أيضاً . قال ابن قدامة: (متى تزوج صاحب النسوة امرأة جديدة قطع الدور، وأقام عندها سبعاً إن كانت بكراً، ولا يقضيها للباقيات، وإن كانت ثيباً أقام عندها ثلاثاً، ولا يقضيها، إلا أن تشاء هي أن يقيم عندها سبعاً، فإنه يقيمها عندها، ويقضي الجميع للباقيات)(79).
وقد استدل لهذا المذهب بعموم الأحاديث المتقدمة(80). قال الباجي: (ويشهد له سياق بشر عن خالد الذي في الباب قبله فإنه قال " إذا تزوج البكر أقام عندها سبعاً " الحديث، ولم يقيده بما إذا تزوجها على غيرها)(81)، وقال ابن حجر: (ولأن البقاء عندها طريق إلى تأنيسها، وهي محتاجة إلى ذلك، سواء كان له غيرها، أو لم يكن له غيرها)(82).
وقال المالكية: هذا الحكم لمن كان له زوجة قبل هذه الجديدة(83). قال الحطّاب: (ولذي زوجة أن يقيم عند من تزوجها بكراً سبعاً وثيباً ثلاثاً)(84). وقد رجح النووي هذا القول حيث قال: (ورجح القاضي عياض هذا القول، وبه جزم البغوي من أصحابنا في فتاويه، فقال: إنما يثبت هذا الحق للجديدة، إذا كان عنده أخرى يبيت عندها، فإن لم تكن أخرى، أو كان لا يبيت عندها، لم يثبت للجديدة حق الزفاف، كما لا يلزمه أن يبيت عند زوجاته ابتداء)(85).
وقد استُدِل لقول المالكية هذا بحديث عائشة – رضي الله عنها – المتقدم، وفيه" البكر إذا نكحها رجل، وله نساء، لها ثلاث ليال، وللثيب ليلتان "، وبحديث أنس المتقدم، وفيه " إذا تزوج البكر على الثيب "، وهذه الأحاديث مقيدة؛ والمطلق محمول على المقيد، ويؤيده أيضاً قوله في حديث الباب " ثم قسم " لأن القسم إنما يكون لمن عنده زوجة أخرى(86)؛ وذلك أن من لا زوجة له من قبل، هو مقيم معها كل دهره، مؤنس لها، متمتع بها، مستمتعة به بلا قاطع، بخلاف من له زوجات، فإنه جعلت هذه الأيام للجديدة تأنيساً لها متصلاً؛ لتستقر عشرتها له، وتذهب حشمتها ووحشتها منه، ويقضي كل واحد منهما لذته من صاحبه، ولا ينقطع بالدوران على غيرها(87)، ولأن هذا مقام عند الزوجة، فلا يلزم من ليس له غيرها، كالقسم(88).
وقد ذكر النووي في المجموع هذين القولين، فقال: (قيل: وهذا في حق من كان له زوجة قبل الجديدة. وقال ابن عبد البر: قول جمهور العلماء أن ذلك حق للمرأة بسبب الزفاف، سواء كان عنده زوجة أم لا)(89).
وحكى النووي قولاً آخراً هو: أن حكم البقاء هذا عند الزوجة مستحب إذا لم يكن عنده غيرها، وإلا فهو واجب. وذكر أن هذا موافق لكلام أكثر أصحاب الشافعي(90).

حكم ما لو أقام عند الثيب سبعاً:
يمكن التفريق بين أن يختار هو ذلك، أو أن تكون هي التي اختارت ذلك.
· فإن كانت الثيب هي التي اختارت أن يبقى عندها سبعاً، فقد نقل ابن حجر عن بعض الشافعية: أن ذلك يُسقِط حقها في الثلاث، فإنه إذا أجابها سقط حقها من الثلاث، وقضى السبع لغيرها، لما أخرجه مسلم من حديث أم سلمة، وفي رواية له " إن شئت ثلثت ثم درت، قالت: ثلِّث "(91)، وهذا ما قاله الحنابلة. قال ابن قدامة في الشرح الكبير: (وإن كانت ثيباً أقام عندها ثلاثاً، ولا يقضيها، إلا أن تشاء هي أن يقيم عندها سبعاً، فإنه يقيمها عندها، ويقضي الجميع للباقيات)(92)، وهذا أيضاً مذهب المالكية. قال في منح الجليل: ( إن اختارت التسبيع سبَّع ثم سبَّع لغيرها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لأم سلمة، وقد التمست منه صلى الله عليه وسلم ذلك:" إن شئت سبعت عندك وسبعت عندهن، وإن شئت ثلثت عندك ودرت عليهن "، وقال القرافي: فالتسبيع يبطل حقها في التثليث)(93).
· وإن كان هو الذي اختار البقاء عندها سبعاً، ففي المسألة خلاف:
فقيل: يقضى السبع كلها.
وقيل: يقضى ما زاد على الثلاث فقط.
وهذان القولان هما وجهان عند الشافعية. قال النووي في المجموع: (وإن أقام عند الثيب ثلاثاً لم يقض، فإن أقام سبعاً، ففيه وجهان. أحدهما: يقضى السبع؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: " إن شئت سبعت عندك، وسبعت عندهن "، والثاني: يقضى ما زاد على الثلاث؛ لأن الثلاث مستحقه لها، فلا يلزمه قضاؤها)(94)، وقد نقل النووي عن العمراني قوله في كتاب البيان: (إذا كان تحته زوجة أو زوجات فتزوج بأخرى قطع الدور للجديدة، فإن كانت بكراً أقام عندها سبعاً ولا يقضى، وان كانت ثيباً كان بالخيار، بين أن يقيم عندها ثلاثاً ولا يقضى، وبين أن يقيم عندها سبعاً، ويقضى ما زاد على الثلاث. ومن أصحابنا من قال: تقضى السبعة كلها، والأول هو المشهور). قال النووي: (قلت: هذا هو مذهبنا وبه قال أنس بن مالك – رضي الله عنه – والشعبي، والنخعي، ومالك، وأحمد، وإسحاق رحمهم الله)(95).
وقد ردَّ النووي على من قال: يقضي السبع كاملة، فقال: (لو كان يجب قضاء الثلاث كما كان يجب قضاء ما زاد، لما كان للتخيير معنى، ولأن الثلاثة مستحقه لها؛ بدليلأنها لو اختارت أن يقيم عندها الثلاث لا غير، لم يجب عليه قضاؤها، فكذلك لا يجب قضاؤها إذا أقامها مع الأربع)(96).
· على أن من الفقهاء من قال: يستحب تخيير الثيب بين ثلاث ولا قضاء، وسبع مع القضاء، فإن سبَّع لها بغير اختيارها، أو اختارت دون سبع، لم يقض، إلا ما فوق الثلاث؛ لأنها لم تطمع في الحق المشروع لغيرها، وإن سبَّع لها باختيارها، قضى جميع السبع للأخريات؛ لظاهر الخبر، ولأنها طمعت في الحق المشروع لغيرها، فبطل حقها(97). وهذا ما قطع به أكثر الشافعية، حيث نصوا على أنها إن اختارت السبع قضاها كلها لغيرها، وإن أقامها عندها بغير اختيار منها قضى الأربع المزيدة فقط(98)، وقال في فتح الوهاب من كتب الشافعية: (وسن تخيير الثيب بين ثلاث بلا قضاء للأخريات، وسبع به، أي بقضاءٍ لهن)(99)، وقال في الإقناع من كتب الحنابلة: (ويسن تخيير الثيب بين ثلاث بلا قضاء وبين سبع بقضاء كما فعل – صلى الله عليه وسلم – بأم سلمة رضي الله تعالى عنها)(100).

والله تعالى أعلى وأعلم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.