تنازَلَت شقيقتي عن حصتها لي في محل بعد وفاة والدينا ، وهي الآن نادمة تريد العدول عن تنازلها ، هل يحق لها ذلك ؟
الحمد لله
خطابنا معك – أخانا الكريم – سيعتمد لغة مكارم الأخلاق ومحاسِن الشِّيَم ، ويتكئ على ما نظنه فيك – إن شاء الله – من الكرم والجود وعالي المروءة ، فإن ما نعرفه من ديننا العظيم يدعونا لحثك على البر والصلة ومقابلة الإحسان بالإحسان ، إذ هي أختك التي تربَّت معك ، وجمعت بينك وبينها رحمٌ واحدة ، ولها الحق العظيم عليك في رعايتها وتدبير شؤونها والسعي في إسعادها ، فأَوْلى بك أن تُكرِمها فتعيدَ إليها ما تنازلت عنه ، وتقابلَها بإحسانها الأول إحسانا أعظم وأكبر ، فتُقيلها تبرَّعها كي يقيل الله عثرتك يوم القيامة .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ أَقَالَ مُسْلِمًا أَقَالَهُ اللَّهُ عَثْرَتَهُ )
رواه أبو داود (3460) وصححه الألباني في صحيح أبي داود .
وفي لفظ في "السنن الكبرى" للبيهقي : ( مَنْ أَقَالَ نَادِمًا أَقَالَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ )
قال ابن عبد السلام : " إقالة النادم من الإحسان المأمور به في القرآن ، لما له من الغرض فيما ندم عليه " انتهى . نقلا عن المناوي في "فيض القدير" (6/79) .
بل نقول لك أخانا السائل : قد كان الأَوْلى والأفضلَ منك أن تَردَّ إلى أختك ما تبرَّعَت به حال ما شعرت أنها قد ندمت ، ولا تضطرَّها إلى طلب ذلك بلسانها ، حتى لا توقعها في الحرج والمشقة .
يقول مَعْمَر – وهو من خيار التابعين – :
" مِن أقبح المعروف أن تُحوِجَ السائل إلى أن يسأل وهو خجلٌ منك ، فلا يجيئ معروفُك قدر ما قاسى من الحياء ، وكان الأَوْلى أن تتفَقَّد حال أخيك وترسلَ إليه ما يحتاج ، ولا تُحوِجَه إلى السؤال " انتهى .
وهكذا ينبغي أن يكون الأمر بين الإخوة ، فمالُهُم واحد ، وفَرَحُهم واحد ، وحُزنُهم واحد .
وتذكر دائما ما لك عند الله تعالى من أجر عظيم ، إذا كنت عند رغبة أختك ، وأعدت إليها ما ندمت عليه ، ففرجت عنها ضيق صدرها ، وحفظت لها برها وصلتها ، خاصة إذا كان ندمها على تنازلها بسبب ضيق حال ، وفقرٍ طرأ عليها ، فعليك حينئذ مد يد العون إليها ، فتمنحها ما يوسع عليها ، وتكافئها على تنازلها الأول ، والله سبحانه وتعالى يقول : ( هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ) الرحمن/60 .
الآثار السابقة منقولة عن "علو الهمة" للسيد العفاني (2/612-651) (5/288-302)
أما إذا كان تنازلها الأول عن حياء اضطرها إليه خوف ملامة من المجتمع الذي قد يظلم المرأة في ميراثها ، أو خوف قطيعة يُحدثُها لها إخوانها إن هم رأوا منها إصرارا على حقها ، فحينئذ يحرم عليك أكل ذلك المال ، ويجب إرجاعه إليها ، فقد نص الفقهاء على أن ما أخذ بالحياء فهو سحت .
جاء في "الموسوعة الفقهية" (18/263) :
" صرّح الشّافعيّة والحنابلة أنّه : إذا أخذ مال غيره بالحياء ، كأن يسأل غيره مالاً في ملأ فدفعه إليه بباعث الحياء فقط ، أو أهدي إليه حياءً هديّةً يعلم المُهدَى له أنّ المُهدِي أهدى إليه حياءً ، لم يملكه ، ولا يحلّ له التّصرّف فيه ، وإن لم يحصل طلب من الآخذ ، فالمدار مجرّد العلم بأنّ صاحب المال دفعه إليه حياءً ، لا مروءةً ، ولا لرغبة في خير .
ومن هذا : لو جلس عند قوم يأكلون طعاماً ، وسألوه أن يأكل معهم ، وعلم أنّ ذلك لمجرّد حيائهم ، لا يجوز له أكله من طعامهم " انتهى .
والحاصل : أنه ينبغي لك أن ترد إلى أختك ما كانت تنازلت عنه ، إبقاءً على المودة بينكما ، وصلة للرحم .
ونسأل الله تعالى أن يعوضك خيراً .
والله أعلم .
[/frame]