أعد يا ابني القراءة, فأعاد الابن البار قراءة الخبر مرة أخرى, فطفق الأب يهمهم بكلمات لم يفهم منها الابن إلا الحوقلة والاسترجاع وعلم إن والده حزن لسماع ذلك الخبر، ولكنه لم يفهم سبباً لحزنه؛ فبرج بيزا رمز من رموز الحضارة النصرانية وفي عاصمة بابويتها, فالأجدر بنا أن نفرح لسقوطه لا أن نحزن لمجرد ميوله، الأمر الذي قد يتداركه الطليان بالترميم ويصلحوا وضعه, هكذا كان يفكر الابن, وتبديداً لما يدور في ذهنه توجّه إلى والده قائلاً: يا أبتي منذ قرأت عليك خبر برج بيزا وأنت تحوقل وتسترجع، وأرى الحزن بادياً على قسمات وجهك, وهذا يذكرني برد فعلك عند ما قرأت عليك العام الماضي خبر هدم المسجد البابري بالهند, مع الفارق لما يعنيه أمر الخبرين؛ فالأول يعني هدم بيت من بيوت الله, فحق لك ولكل مسلم الحزن لهدمه, أما الثاني فهو يعني سقوط رمز من رموز النصرانية التي نتمنى سقوطها من العالم أجمع ليس من إيطاليا فحسب, فعلى ماذا تحزن يا أبي ؟!
سكت الوالد برهة من الوقت, ثم رد قائلاً, بني لعلك تذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أخبرنا بفتح رومية, وإن لم تذكره فسأورده لك: ( روى الحاكم في مستدركه بسنده « عَنْ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَكُونَ أَدْنَى مَسَالِحِ الْمُسْلِمِينَ بِبَوْلاَءَ ). ثُمَّ قَالَ: (يَا عَلِيُّ يَا عَلِيُّ يَا عَلِيُّ)، قَالَ: بِأَبِي وَأُمِّي، قَالَ: (إِنَّكُمْ سَتُقَاتِلُونَ بَنِي الأَصْفَرِ وَيُقَاتِلُهُمُ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِكُمْ حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ رُوقَةُ الإِسْلاَمِ، أَهْلُ الْحِجَازِ. الَّذِينَ لاَ يَخَافُونَ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لاَئِمٍ. فَيَفْتَـتِحُونَ الْقُسْطُنْطِينِيَّةَ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّكْبِيرِ. فَيُصِيبُونَ غَنَائِمَ لَمْ يُصِيبُوا مِثْلَهَا. حَتَّى يَقْتَسِمُوا بِالأَتْرِسَةِ.
وَيَأْتِي آتٍ فَيَقُولُ: إِنَّ الْمَسِيحَ قَدْ خَرَجَ فِي بِلاَدِكُمْ. أَلاَ وَهِيَ كِذْبَةٌ. فَالآخِذُ نَادِمٌ، وَالتَّارِكُ نَادِمٌ ).
فكنت يا بنيَّ أحلم أني أرفع الأذان من على هذا البرج الذي ورد به الخبر, إذا فتحت روما, وكنت سعيداً بهذا الحلم، راجياً من الله العلي القدير أن يحقق لي هذا الشرف العظيم, وقد حزنت لسماع الخبر, فأخشى أن يسقط قبل أن يتحقق حلمي بالأذان فوقه!!
انتهى كلام المؤذن.. وبقي أن نقول أن الله سبحانه وتعالى قد أمرنا بإعداد القوة لأعدائنا { وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ } [الأنفال:60], ومن أهم وسائل الإعداد إعداد النفس, فلو كنا ذلك الرجل الذي حمل بقلبه همَّ الإسلام واستيقنت نفسه إن ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحق, وقد يكون عنده من علو الهمة ما يجعله يحلم أن يرفع نداء التوحيد من أعلى أبراج عاصمة النصرانية, فلو عاش المسلمون هذا الشعور كما عاشه ذلك الرجل, واستيقنت أنفسهم أن رسول الله لا ينطق عن الهوى فما قال أنه سيكون كائناً لا محالة, لتغير حالهم عن ما هم فيه من ذل وخذلان, وتبدل ضعفهم إلى قوة وهزيمتهم إلى نصر وكان في ذلك غنى لهم عن استجداء النصر من هيئة الأمم المتحدة, وغيرها من قوى البغي, والله المستعان.