فقد كنت فتاة تحب الحياة وتوليها جل اهتمامها.. لم أكن أفكر في الموت مطلقا .. وظننت أنه سيظل طريقه إلي ردحا طويلا من الزمن ..
كنت جميلة .. محبوبة .. مرحة ..منطلقة في الحياة ولم تكن همومي تتجاوز تفكيري في التميز في كل شيء .. وهذا ما تحقق لي زمنا..
كنت محط رغبة الكثيرين .. ولكني اخترت أفضلهم.. وكان الأول في كل شيء .. تعليمه وسامته رجولته خلقه .. تميزه كان بلا حدود.. وكان يعمل ضابطا عسكريا برتبة ملازم أول .. بعد زواجنا .. كانت علاقتنا محط غيرة وحسد الجميع ..
أحببنا بعضنا بشكل لا يوصف ..فلا سعادة لأحدنا بدون الآخر .. لا نفترق إلا نادرا
ويكون ذالك غالبا يوم الأربعاء من السادسة مساء حتى الثانية عشر ليلا حين يذهب لأصدقائه وأذهب لأهلي .. يحادثني حتي وهو في مكتبه في العمل ..
حدثت لنا بعض المشكلات وكان سببها الوحيد غيرته الشديدة علي من كل شيء أهلي , إخوتي , أخواتي , ملابسي , مكياجي ، حتى وصل به الأمر أن يجبرني علي لبس الجلابيات حتى عند أهلي ..لم تكن لي علاقات خارج حدود عائلتي وعائلته أبدا .. لا جارات ولا صديقات ولا زيارات إلا ما ندر جدا ..
أوقعنا ذالك كله في مشكلة وموقف ..لا أرى داعيا لذكره هنا .. وقد لا أستطيع ذالك .. لكنه .. كان سببا في معرفة مدى حب أحدنا للأخر وعدم قدرته على التخلي والبعد عنه وأن كلانا خلق للأخر فقط ..وهذا ما أثبته لي وللجميع ..
عاد الوضع أو استمر على هذا المنوال سعادة وحب وتضحية وتفاني وإخلاص حتى تلك الليلة .. سهرنا كالمعتاد حتى الثالثة .. حدثني عن حبه لي ورغبته في إسعادي وضمان مستقبلي أنا وطفله وأنه لا راحة له قبل ذالك ..
تحدثنا ولا أدري لماذا عن الوفاء بين الزوجين حتى بعد الموت .. وأخبرني .. أن الحب لا حدود له وأن سعادته وكماله في جنات النعيم ..حيث لا انقطاع ولا فرقه ولا مشاكل ولا تعب ونصب ..
ظننت لوهلة أن وفاة والده قبل عدة أشهر .. كانت دافع هذا الحديث .. غفوت ليلتها لأستيقظ بعد ساعة علي صوته وهو يقول لي ( قومي صلي الله جزاك الله خيراً حتى تكونين زوجتي في الدنيا والآخرة ) ..
كان واقفا علي الباب مرتديا بدلته العسكرية أكاد أرى ملامحه الدافئة العذبة .. تشق الظلام .. ونظراته الحنونة تنطرح بكل صدقها علي .. وابتسامته البريئة تزين محياه ..
ودعني علي أمل أن يعود لي ظهرا وهو يحمل بين يديه علبة *الفيمتو* التي أحب .. لكنه ما عاد وما رأيته بعدها سوى في أحلامي ..
نعم .. فقد سقط صباحا بين يدي ربه .. وعلي مرأى من الجميع وهو ينازع سكرات الموت دون سبب واضح غير انتهاء أجله ..
سكته قلبية أنهت كل شيء .. دون استئذان .. أو إنذار .. في بداية هذا العام.. لم يكن مريضا ولا مدخنا .. لم يتجاوز الواحدة والثلاثين من عمره ..
لكنه (الموت) نعم (الموت) بكل قوته وجبروته.. لا راد له .. ولا رحمة في قلبه .. ولا مجال لتفاوض معه..
نعم .. تلك الليلة .. نمت وأنا أمتلك أجمل حياة .. بيت واسع .. سيارة آخر موديل .. زوج متيم ومحب .. حياة هانئة ..
ولكني استيقظت على زوالها كلها في طرفة عين .. لأبقى وحيدة ..مذهولة .. لا حول لي ولا قوة ..
أصبحت أرملة في السابع والعشرين من عمرها .. في يدها طفل وفي أحشائها طفل آخر ..
مررت بكرب لا يعلم به إلا الله .. ولكني فررت منه إليه .. وكان بي رحيما .. ( وعسى أن تكرهو ا شيء وهو خير لكم )..
تغيرت حالي وأصبحت من أكثر الناس احتقارا للدنيا .. وأكثرهم طمعا فيما عند الله .. أعطتني الدنيا كف لا ينسى .. ولكنه كان في وقته .. صحوت من غفلتي وتوجهت إلى ربي بالدعاء عسى أن يتجاوز عنه وعني ويسكنه فسيح جناته بكرمه ورحمته وأن لا يكلنا على أعمالنا ولا على أنفسنا طرفة عين ..
تذكرت قوله تعالى (وحيل بينهم وبين ما يشتهون) .. وأنا أفكر في أمره وأمري.. وتأكدت أنه لكل أمر إذا ما تم نقصان .. فربنا عز وجل خالقنا منشأنا من العدم يقول لنا (ولقد خلقنا الإنسان في كبد).. فلماذا نشقي أنفسنا ونتعبها في البحث عن السعادة بعيدا عنه ..؟!؟
فوالله لن تجدوا ا طعما للراحة والسكينة والطمأنينة إلا بين يديه .. وتحت رحمته .. والله ما هدأت نفسي إلا بكتابه وما تقر عيني إلا بلقائه ولا يهنأ لي عيش بعيدا عنه .. فالباحث عن القرار في غير خير دار .. كالباحث عن قطعة ثلج في تنور نار .. فلا تلهكم الدنيا عن أنفسكم .. وقدموا لها قبل أن تقدم لكم .. وأكرموها قبل أن تهينكم .. اظفروا برضا الله واتركوا كل شيء خلفكم قبل أن يترككم خلفه .. تذكروا أن الدنيا بكل ما فيها من ملهيات ومفاتن وبكل ما تتقطع أنفسنا من الجري خلفه من مغريات لا تساوي عند الله جناح بعوضة !! وإلا ما سقى فيها كافرا جرعة ماء ؟!!!
وعلي ذالك قس هذه هي الدنيا التي لا تساوي شيئا .. فماذا يكون الذي أعده الله لعباده من العذاب والنعيم .. فعلا حينها ستقول : ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر في قلب وعقل بشر ..
نسأل الله من فضله ونسأله العفو والعافية..
فلنكن جميعا من أصحاب الهمم العالية والرغائب الثمينة .. ولا نبع سعادة الخلد بشقاء زائل ولو ظنناه سعادة .. أنيروا بيوتكم المنتظرة بقراءة القران وافرشوها بالروح والريحان ..وازهدوا في بيوت لن يكون لكم منها إلي انطفاء نورها وزوال سرورها..
أخيرا أحبتي أسأل الله أن ينفعكم بهذا .. وأن يفتح علي قلوبكم .. وأن يثبتكم ويثبتني علي طاعته.. وأن يجعل همي وهمكم نصرة دينه ..والذود عن حماه بالروح والدم والمال والولد.. إنه علي ذالك قدير وبالإجابة جدير ..
وأسألكم الدعاء لزوجي بالرحمة والمغفرة .. وأن يوسع الله و ينير له في قبره .. ويؤنس وحشته .. ويفك كربته .. ويجمعني به في جناة النعيم .. وأن يجعله زوجي في الدنيا والآخرة وأن يجعل مصيبتي فيه كفارة لجميع ما تقدم من ذنبي وأن يعيننا علي الموت وسكراته وكربه بحوله وقوته ..