-: عَلَّم تلاميذه رسم الجياد، جميلة أبيَّة، بينها قواسم لعلَّ أبرزها الأصالة والاعتداد. وما كان يعترض على أصباغهم وهي تلونها. حمراء أو سوداء أو حتى خضراء!.
لكنه ما قبل أن تبقى دون ألوان.
معتدٌّ بنفسه كحصان، رضع حليب أمه والشهامة بكفتي ميزان. كان أبوه يحلم أن يجعله فارساً، لكنه مات مع حلمه، وقد تبدل الزمان. هو ذا الأستاذ أحمد، ربى بنيه وتلاميذه على الصدق وعفّة النفس والنبل، متواضع، يشق الليل ليصنع نهاراً، لا يعرف القناعة في المعرفة، ومازال مبهوتاً أمام مدهشات الكون. لطيفٌ يذوب في النفس كرائحة الورد، لم يتنازل عن حقٍّ، خصمٌ لدودٌ لكل ما ينافي الإنسانية، والأمر الواقع المرير الوحيد الذي هزَّ له رأسه بصمتٍ، أميّة عديله المترع غنىً من تجارة عرق السوس وتفل الشوندر، وروث المباقر وسوق الغنم، وذرق دجاج المداجن.
بينما حياة الأستاذ تسير وتمضي وتستمر دون منغصاتٍ، ولِمَ لا؟. وزوجته امرأة مدبرة، تصنع من الطحين العديد من المأكولات. أدامها نعمة والحمد له، طالما أن الأولاد متفوقون؛ يلتهمونَ العلم ويخزنونه في أدمغتهم، كما يفعل اليمنيون بالقات. أما ابن خالتهم الوحيد على تسع بنات من ثلاث زوجات؛ مدلّهٌ كسول، يصرف على حماقاته في أقل من أسبوع، ما يكفي أسرة الأستاذ لشهرين، يشارك في الرحلات والمناسبات كافة، وفي غرفته "فيديو" ومجسمات وآلة حاسبة ومراجع وأرجوحة، وصور المغنين والراقصات، يطلب طعامه بالهاتف من المطاعم إن لم يستسغ طبخ أمِّهِ الدسم!. ومذ كان في الأول الابتدائي، خلع عليه والده لقب "دكتور". بعدئذٍ لم يجرؤ أحدٌ من أسرته أو زوجات أبيه وعمّاله، أن يناديه باسمه إلا مقروناً بذاك اللقب الفضفاض.
أما بكر الأستاذ فتجده يستعير المراجع من هنا وهناك، كذلك يعتمد على ما لدى والده من معلومات، وعلى جهده الخاص في التحصيل مكتفياً بالليرات المعدودات التي خصصها له والده راتباً أسبوعياً، منذ صار في الثالث الثانوي، يشعر بغبطة حين يقول لوالده: أستاذ.
اليوم حيّره كلام أمه: الأستاذ يا ولدي رأى حصاناً قد شُدَّ إلى عربة، وصاحبها الجلف يسوطه بفظاظة، وهو يحاول دون جدوى أن يمضي بالعربة. تَدّخل الأستاذ لإقناع الرجل بأن الحمولة فوق طاقة الحصان، فسخر منه ونهره، وأصر الأستاذ على أن الحصان في موقف لا يجوز أن يوضع فيه، فقذفه صاحب العربة بقوله: فلتجرها معه مادمت تشفق عليه.
وكان في جمجمة الأستاذ عقلٌ.. فطار، فكَّ الحصان، وربط صاحب العربة مكانه وصاح به: جرَّها أيها البغل.. هيا.
أفاق أبوك وهو يصيح؛ وأفقت، جفلت، حوقلت وبسملت ومسحت عرقاً تفصد من جبينه، نظر إليَّ لاهثاً وقال: الحصان في وضع لا يحسد عليه.
نظر الابن إلى أمه طويلاً وظلا صامتين.
مساءً أُعلنت نتائج الشهادة الثانوية، حلّتِ البشارةُ فحاصرت الأستاذ بين حالتين فَرَحٍ بنجاح ابنه متفوقاً، وحُزنٍ لسبب نافذ كخردقة خبأها في القلب، هاهو أمام الحصان المربوط إلى العربة، فهو إن أرسل ابنه إلى أقرب جامعة، فالراتب قد لا يكفيه!. وليس له غير راتبه مصدر قوت وحاجات العيال!.
إعصارٌ عصف بعقله وأعصابه، أصابه ذهولٌ ناخ له وأركع الحصان في مخيلته، وعديله قد طلب إليه أن يتكفل باستخراج وثائق سفر ابنه إلى شرق أوربة ليعود بشهادة طبيب، ولم يتلكأ الأستاذ، والخردقة تمزق دسامات القلب.
وفي المطار، حلقت الطائرة، وانزلقت دموع عديله؛ وهو يهذي ضاحكاً باكياً، بينما الأستاذ يلجم مناحة تجتاح صدره، وتتحجر دموع ابنه كالخردق، وهو ينظر إلى الوالد الأستاذ؛ وإلى الطائرة التي ارتفعت عالياً فوق الغيم بأدنى العلامات.
التفت العديل إلى الأستاذ وقال: لا أدري كيف أرد جمائلك ومعروفك، أفضل من أن يبقى دون عمل، ما رأيك أن يعمل -المحروس- عندي في الخان؟.
لحظتئذٍ قُصِمَ ظهر الأستاذ