كتبته:وعودة
ما إن فرغ أبو صالح من إعداد القهوة ، حتى سكب فنجانا، وارتشفه كي يتذوقها ، هز رأسه وقال : قهوة تمام ….. لا ينقصها إلا بعض الهيل ، تناول علبة صغيرة بجانبه وأخرج منها حبات من الهيل ، طحنها وأضافها إلى القهوة .
بدا توافد السمار إلى مضافة أبي صالح فلقد اعتادوا أن يجلسوا في هذه المضافة ، يتناولون شتى المواضيع الاجتماعية والسياسية وغيرها ، ومما يزيدهم بشرا ترحيب أبي صالح بهم واستقباله الحسن لهم مصحوبا بالقهوة العربية الأصلية التي يدور بها عليهم ابنه صالح ، فيدعون لهم بالصحة والعافية وطول العمر وأن يحفظ له قرة عينية ابنه صالح .
كان حديث السمار في هذه الليلة عن الصحاب والرفاق والأصدقاء ، بدأ كل منهم يدلي بدلوه ، فمنهم من هو محبذ لكثرتهم لأنهم يمثلون درعا واقيا لحوادث الدهر وصروفه ، والبعض الآخر يرى الاكتفاء منهم قدر الإمكان بالقليل، لكنهم اتفقوا جميعا على أنهم ليسوا سواء فمنهم الواحد الذي يساوي الكثير، والكثير الذين لايساوون واحدا .
وصدق هذا الكلام وأكد عليه أبو عمر الذي قال للجلوس : اسمعوا يا جماعة …….. سأحكي لكم قصة حصلت مع العبد الفقير الذي أمامكم " يقصد نفسه " فرد عليه الجلوس تفضل يا " أبو عمر " ……قص قصتك .
جلس " أبو عمر " جلسة القرفصاء وعدل الكوفية والعقال ، وبعد أن ارتشف فنجان القهوة بدا يقص ويحكي . … لقد مرت علي سنة من السنين لولا المبالغة لقلت إنها لاتقل عن سني يوسف عليه السلام .. فقد ماتت البقرة في ميلادها ، وأصاب الغنم مرض مفاجئ قضى على بعضها واضطررت لبيع البعض الأخر بثمن بخس ، وكان سعر الخضرة بسعر الشماتة لم تفلح في سداد مصروفاتها .
في هذا الوقت العصيب إذ بأحد الأبناء يعاني من مرض مفاجئ…. وحالا نقلناه إلى مستوصف القرية………فقرر له الأطباء عملية عاجلة خارج القرية … . يصمت أبو عمر برهة وذلك ليتفحص الجلوس أهم منتبهون لحديثه أم عنه ساهون .
وبعد يا " أبو عمر "……… يرد الجلوس
يسترسل " أبو عمر "……. كما سمعتم يا جماعة لم يكن لدى " أبو عمر " في ذلك الوقت إلا ستر الله عز وجل .
– وكيف تصرفت يا " أبو عمر " يتكلم أبو كنعان .
عرضت على نفسي شريط ذاكراتي أستحضر أصدقائي ومعارفي…….. فقلت في نفسي .. اذهب إلى " فلان " ممن أعرف أنهم من أهل اليسر ، فلما فاتحته بالموضوع قال : آآآآه ……… يا " أبو عمر " …….. لو أتيتني قبل أسبوع….. فلقد دفعت كل النقود في شراء قطعة أرض .
قلت أذهب إلى آخر … فلما فاتحته بالموضوع استعد بشي يسير ،وهو عبارة عن دين له ..عند أحد الناس وميعاد سداده أول الشهر . فقال لي: إن التزم المدين بالموعد وجاء بالنقود أعطيتك إياها . ولكني يا " أبو عمر ". أنصحك نصيحة يقول المثل .. " إذا كان لك صاحبا وأردت أن تبقيه فلا تأخذ منه ولا تعطيه " ..
تركته وقلت في نفسي " فلان الله فاتحها عليه " فهو بخير وصاحب تجارة مربحة فذهبت إليه وعندي يقين أن يفرجها الله عليً على يديه
أو كان ذلك يا عم " أبو عمر " ؟ قال صالح .
– آتيك بالكلام يا صالح …… وما إن وصلته واستقبلني وفاتحته بالموضوع قال يا صاحبي يا " أبو عمر " لا أكتمك سرا بالنسبة للمال عندي مال ولكن تعلم يا " أبو عمر " أن لي أولاد بالجامعة وأنت سيد العارفين ما تعني الجامعة بتكاليفها ومصروفاتها ، ولا تنس أجرة المتاجر المرتفعة …… وأيضا أفكر في تزويج ابني الأكبر في هذا الصيف ….. فلو ….. فقاطعته " كان الله بالعون ."وبارك الله فيك لاحرج إن شاء الله ، فان لي عند بعض الناس ديون وأظن أنها ستسد ثغرة في الموضوع ، فوالله يا جماعة لم يكن لي عند احد دين ولكني قلت هذا معالجة للموقف .
فرد عليً وماذا تنتظر؟! يقول المثل " جحا أولى بلحم ثوره "
وعند ذلك تدخل سمير في الحديث – وهو موظف بالبريد – قائلا وانطبق عليك قول الشاعر :
" ما كل يتمنى المرء يدركه تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن "
– وأتت الرياح بما لاتشتهي به السفن وربانها .
عند ذلك يصمت أبو عمر برهة …. يقطعها صوت الجلوس : وبعد يا " أبو عمر" وبعد …..
يعاود " أبو عمر" حديثه .. فتوليت من عنده لا ألوي على شئ فلقد أسود النهار في وجهي وكأن السماء انطبقت على صدري أو كأن الأرض ابتلعني…….. حتى تذكرت أني سمعت ذات مرة درسا في المسجد لأحد العلماء ، وكان درسه عن قصة نبينا يونس عليه السلام وكيف أن الله نجاه من ظلمات البحر والليل والحوت بدعائه " لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين "
وقد علق الشيخ في حينه بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عجبت لمن أصابه كرب وغفل عن دعاء يونس ………….. " فطفقت اردد هذا الدعاء . وقلت في نفسي والله إني لفي ظلمات من الهم والغم .
فقال وديع : وهو طالب جامعي يلازم الجلوس في المضافة .. وفرجها الله عليك يا عم " أبو عمر "؟
– ما في أقرب من فرج الله يا جماعة……….. ويقص أبو عمر …. ومررت من أمام متجر الحاج طاهر- مساه الله وإياكم بالخير – وكأنني لم أعرفه ولا أدري أنني أمر من أمامه أصلا ،فلقد كنت غارقا في دوامة أفكاري حتى أيقظني صوت الحاج طاهر " سارحة والرب راعيها " وانتبهت نحو الصوت ، وانعطفت نحوه للسلام عليه فبأردني: لا سلام ولا كلام يا "أبو عمر" كأنك لا تعرفنا ولا نعرفك، فاعتذرت له بأنني كنت سارحا في فكرة أشغلتني .. وقال الحاج طاهر اجلس نتجاذب أطراف الحديث فقد أصابني الملل ….. ثم قال لغلام يعمل عنده: أحلى كوب شاي لعمك "أبو عمر" .
هنا علا صوت أبو صالح مخاطبا ابنه صالح : أحلى فنجان قهوة لعمك " أبو عمر " حتى يستقيم الكلام ويحلو.
وبعد أن ارتشف " أبو عمر" فنجان القهوة واصل حديثه ……… وألح عليً الحاج طاهر أن يعرف الفكرة التي أشغلتني لدرجة إنني مررت من أمامه ولم أره …. والله إنني لخجل أن أفاتحه بالموضوع ……… حتى تعرف أخيرا على الموضوع ..
وكيف كان موقف الحاج طاهر يا " أبو عمر " قال أبو وجيه ؟
– يجيب " أبو عمر" : الرجال ليسوا سواسية كأصابع اليد ……..مسا الله الحاج طاهر وإياكم بالخير ….والله ما إن علم بالموضوع حتى قام ووضع يده في جيبه وأخرج مفتاح مكتبه وفتح درج المكتب وأخرج نقودا محلية وأخرى أجنبية ووضعها أمامي وأقسم علي أن لا أقوم حتى آخذ كل حاجتي من النقود ………
وبفضل الله ثم بفضل الحاج طاهر أنجاك الله من ظلمات الهم والغم ….. يرد وديع .
– نعم ، وفرجها الله عليً بفضل الحاج طاهر جزاه الله كل خير ، وإني لأحمل له هذا المعروف ما حييت .
ثم يعلق وديع …… لقد درسنا ونحن طلاب في المرحلة الثانوية قصيدة يا عم "أبو عمر" والكلام للجميع…. مطلعها :
على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم
وتعظم في عين الصغير صغارها وتصغر في عين العظيم العظائم
ويتدخل سمير ولا تنس قول القائل :
فكم من رجل يعد بألف رجل وكم من رجال تمر بلا عداد
قال أبو كنعان: ها هم الناس أغلبهم " كصفيح التنك "لأخير في الكثير منهم ……..
رد أبو وجيه: يكفي أن من بينهم من هو مثل الحاج طاهر كالذهب الخالص.. وهنا يرتفع صوت أبي صالح قائلا : دور قهوة يا صالح.