الحقائق الكونية وتفاوت العقول
إن الحرص على صيانة عقائد العوام ، وعدم إلقائهم فى لجج الحيرة بأسماعهم ما يتعاصى على عقولهم ، وعدم تعريضهم للفتنة ، هو الذى حدا بحبر الأمة وغواصها على حقائق الأسرار القرآنية ، بشهادة خير الشاهدين الذى قال له : " اللهم فقهه فى الدين وعلمه التأويل " ـ إلى التوقف عن تفسير قوله تعالى : " ومن الأرض مثلهن " بالنسبة لمن لم يستأهل فهم حقيقة تفسيرها ، وكان قد فسرها لمن استضاء عقله بنور العلم بالله وعظمة ملكه ، روى إبن كثير أن رجلا جاء إلى إبن عباس فقال له : " الله الذى خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن " ما تفسيرها ؟ فقال له : ما يؤمنك إن أخبرتك بها فتكفر ؟ وفى رواية أخرى عنه ، أنه قال : لو حدثتكم بتفسيرها لكفرتم ، وكفركم بتكذيبكم بها .
ومعنى ذلك أن بعض العقول لا تطيق التصريح بالحقبقة كلها ، ولا سيما فيما يختص بأسرار الكون ، وعجائب آيات الله فيه ، وهذا تأويل الحديث الصحيح الشريف وهو فى البخارى عن النبى صلى الله عله وسلم أنه قال : "حدثوا الناس بما يفهمون ، أتريدون أن يكذب الله ورسوله " وهذا الحديث الشريف إحدى معجزات النبى صلى الله عله وسلم الإخبارية فى طى الأمر الإرشادى ، لأنه بيان عن غيب الحقائق المكنونة فى ضمير آيات الله الكونية التى لم يبلغ العقل البشرى العام مرتبة إدراكها دون أن تزلزل فيه دعائم الإيمان بالحقيقة العظمى فالكشف للعامة عن حقائقها مجازفة خطيرة ، تعوق سير الخير فى الحياة ، وتعرض العقول القاصرة لأعاصير الفتن ، وتردها إلى مضايق الحيرة المذهلة والشك الرهيب المدمر ، ومن هنا قال الحكماء : ما كل حق يقال ، ولكل مقام مقال .
والناس فى عقولهم الفطرية المكتسبة درجات متفاوتون ، فمنهم الزكى العليم الذى يطلب الحق ويحرص على البحث عنه ، لأنه حق ، يرغب فيه لذاته ، ومنهم الجدلى المنحرف عن الجادة الذى لايطلب حقا ، ولا يقصد إلى هدف ، ومنهم العامى الساذج الذى تحركه الرغبة والرهبة ، وتتملكه العواطف الفوارة حظه من العقل الفطرى حظ عامة الأحياء ، ولا حظ له فى عقل مكتسب .
وقد جعل الله لكل صنف من هؤلاء لونا من الخطاب يليق به ، وذلك فى رأى الحكماء هو تأويل قوله تعالى : " أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن " فجعل الدعوة إلى سبيل ، وهو الحق والخير ، والبر والإحسان ، والعدل والرحمة ، على ثلاثة أوجه :
الوجه الأول : الدعوة بالحكمة ، وهى خصيصة العلماء الراسخين الذين يلتمسون الحق للحق ، فالحق ذاته غايتهم .الوجه الثانى : الدعوة بالمعظة الحسنة : وهذه وسيلة العامة الذين يسكنون إلى الوعد طمعا فى الجزاء ورغبة فى الثواب ، ويفيئون إلى الوعيد ، خوفا من الآلام ، ورهبة من العقاب .
الوجه الثالث : المجادلة بالتى هى أحسن ، وهذه خصيصة العقول التى لاتقصد إلى شئ ، ولكنها تجادل للجدل فحسب ، وقد أوصى القرآن الحكيم بأن يكون الحديث والحوار مع هؤلاء ـ تلطفا معهم ـ بالطريقة التى هى أحسن الطرق وأ/ُلها أ>با وعلما ورحمة ، لتجذبهم إلى جانب الحق " إن هذا القرآن يهدى للتى هى أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا "
من قراءاتى