تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » الآيات بين السطور والصدور

الآيات بين السطور والصدور 2024.

خليجية

ما أروعَ الآياتِ.. حينما تُشْرِقُ في حَنايا الرُّوحِ؛ فتُورِقُ وتستريح..
وما أجملَ الكلماتِ حِينَما تُزْهِرُ في الصُّدُورِ، وتُحلِّقُ في أفئدةِ الناسِ مثلَ أسرابِ الطيور!
.. وأنا أقرأُ سورةَ العنكبوت، وقد استَوْقَفَتْنِي آيةٌ ظَلَلْتُ أُرَدِّدُها..
ولا يَمَلُّ اللِّسانُ من استعادتِها، بل يشعر القلبُ كلَّ مَرَّةٍ برَوْعَتِها.
. (بَلْ هو آياتٌ بيِّناتٌ في صُدُورِ الذين أُوتُوا العلم)![1]


الآياتُ هي الآياتُ.. ولكنَّها في السُّطُورِ كَلِماتٌ.. وفي الصُّدُورِ نَبْضٌ
وحَرَكَةٌ وسَعْيٌ إلى تغيِيرِ أنْماطِ السُّلُوكِ وِفْقَ هذه الكَلِمات!
وحينما تَتَغَلْغَلُ الآياتُ في القُلوبِ؛ تُثْمِرُ أحسنَ الثمارِ، وأما إذا
ما بَقِيَت هذه الآياتُ حبيسةَ السُّطُور؛ فسيظلُّ القلبُ على الدَّوامِ قَفْراً مِن القِفار!


إنَّ كثيراً مِن الناسِ مِن حَوْلِنا.. يقرؤون الآياتِ.. ويحفظُون الأمثالَ.. ويُنْشِدون الأشعار
ولكنَّ قليلاً مِنْ هؤلاءِ.. مَنْ يُدْرِك كَوامنَ الرَّوعةِ ويغوصُ على المعاني والأسرار
وأقلُّ مِن هذا القليلِ.. مَنْ يأخُذُ الكلامُ بتلابِيبِه، ويُمْطِرُهُ بشآبِيبِه
فيُدِرُّ الدَّمْعَ مِن مَيازيبِه! كما روى البخاري عن عبدِ الله بن شداد قالَ:"سمعتُ نَشِيجَ عمر وأنا في آخرِ الصُّفوفِ يقرأ: (إنَّما أشْكُو بَثِّي وحُزْنِي إلى الله)[2]".[3]


تساءلتُ.. كمْ بين الكلماتِ التي تُغرَسُ في الصُّدورِ، والكلماتِ التي تُحبَسُ في السُّطورِ؛
فلا ترى النور؟! وما فائدةُ الأفكارِ مهما كانت جميلةً وبرّاقة؛ إذا لم تتحوَّلْ سُلوكاً وتتمثَّلْ مُعامَلَةً وأخلاقا! إنَّ الكلِماتِ في السطورِ.. بحوثٌ، ودروسٌ، ومواعِظُ نظريّةٌ..
وأما الآياتُ التي في الصدورِ؛ فلها في واقعِ الناسِ ثمراتٌ عمليّةٌ؛ فهي بُرهانٌ عقليٌّ، وذَوقٌ وِجدانيٌّ، ومعرفةٌ يقينيّةٌ!


هذه عُيُونُ الناسِ.. تجري كلَّ حِينٍ بين الكَلِماتِ، وتُطالِعُ السُّطُورَ،
وتُقلِّبُ الصفحاتِ؛ ولكنْ.. مَن يُدْرِكُ حَلاوةَ العباراتِ، ويَجْنِي ثَمَرَ الكلماتِ؟
ويقطفُ زَهرَ المفرداتِ؟ إنَّ الكلماتِ الحبيسةَ في السُّطورِ..
مهما كانت رائعةً وبديعةً؛ لا تتحوَّلُ إلى معرفةٍ
وإدراكٍ ونُورٍ؛ إلا إذا صارتْ آياتٍ بيِّناتٍ في الصُّدورِ! وصدقَ الله العظيم

حين قال عن كتابِهِ: (بل هو آياتٌ بيِّناتٌ في صُدُورِ الذين أُوتُوا العِلم)!


وكثيرٌ مِن الناسُ تسْحرُهم روعةُ الكلماتِ ببلاغتِها وفصاحتِها.. وتأسرُهم سلاسةُ التعابيرِ
ورشاقتُها، ورِقَّةُ ألفاظِها وعُذوبتُها.. ولكنّها تحبسُهم عن مُلاحظةِ جَوهرِ الجمال
حين يتمثلُ في ميلادِ الإنسانِ والحياةِ من رَحِمِ الكلمات! كما قال ربُّ العالمين:
(هو الذي بعث في الأميِّين رسولاً منهم يتلو عليهم آياتِه ويزكِّيهم ويعلِّمهم الكتابَ والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلالٍ مبين).[4]
وقد فقِهَ عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -هذا المعنى
فعاتَبَ نفسَهُ؛ حين لم يُثْمِرْ سُجُودُه بُكِيّاً! كما روى ابنُ كثير أنَّ عمر
– رضي الله عنه – سجد عند قول الله – عز وجل –
: (وإذا تُتْلَى عليهم آياتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وبُكِيّاً)[5] وقال: (هذا السّجود؛ فأين البُكِاءُّ؟!).[6]


كَمْ مِن الناسِ.. ذاقَ لَذَّةَ غَرْسِ الكَلِماتِ في قُلوبِ الآخِرين
فأينعتْ حياتُهم القاحِلةُ وأشرقتْ بأحلى السُّنْبُلات؟! مَن عَرَفَ حلاوةَ
رَسْمِ السَّعادةِ بالعِباراتِ الـمُثْمِرَةِ.. التي تنبتُ في سُويداءِ القلوب..
مثل النَّخْلِ الباسِقات (لها طلعٌ نَضِيد)؟


إنَّ القلوبَ وحدَها هي التي تتعامل مع الكلمات: إدراكاً ووعياً؛ ولذلك لا تُلقي الأُذنُ سمعاً،
ولا تَذْرِفُ العينُ دَمعاً؛ إلا إذا أدركَ القلبُ روعةَ القرآنِ وخالَطَتْهُ بشاشةُ الإيمان!
فحينئذٍ تصِيرُ الكلماتُ عِلماً وتُثِيرُ فِقهاً وذوقاً، وتَسِيرُ بين الناسِ معرفةً وفهماً؛ (وكذلك الإيمانُ حينَ تُخالِطُ بشاشتُه القلوب)![7]


ليت شعري.. أينَ مِنّا مَعْشَرَ المسلِمِين ثَمَراتُ الآياتِ؟ وما فائدةُ ما نتلُو ونحفظُ..
على قلوبِنا وعُقولِنا ومنهجِنا في الحياةِ.. إذا لم تتحوَّلْ إلى عِبَرٍ وعِظات؟!


إنَّما الآياتُ لأهلِها.. الذين أثْنَى الله – عز وجل –
عليهم بأنهم (قليلاً مِنَ الليلِ ما يَهْجَعُون وبالأسْحارِ هُمْ يستغْفِرُون)! فهي تُوقِظُهم بالأسْحارِ وتُعمِّرُ قلوبَهم بالنَّهار،
كما روى ابنُ عمر عن النبيِّ – صلى الله عليه وسلم –
أنه قال: (لا حسدَ إلا في اثْنَتَيْنِ: رجلٌ آتاه اللهُ القرآنَ؛ فهو يقومُ به آناءَ اللَّيْلِ وآناءَ النَّهارِ،
ورجلٌ آتاهُ اللهُ مالاً؛ فهو يُنْفِقُهُ آناءَ اللَّيْلِ وآناءَ النَّهار).[8]


وأمَّا الذين لم يَقُومُوا بالآياتِ لَيْلاً.. ولَمْ يَصْحَبُوها نَهارا؛ فلَيْسُوا مِن أهْلِها، بلْ هُمْ أبْعَدُ النَّاسِ عَنْها؛ لأنَّهم"وَرِثُوا الكِتابَ ودَرَسوه؛ ولَكِنَّهُمْ لمْ يَتَكَيَّفُوا به، ولم تتأثَّرْ بهِ قُلوبُهم…
شأنَ العقيدةِ حين تتحوَّل إلى ثقافةٍ تُدْرَسُ وعِلْمٍ يُحْفَظُ… هُمْ دَرَسُوا الكتابَ
وعَرَفُوا ما فِيهِ، بلى! ولكنَّ الدِّراسةَ لا تُجْدِي ما لم تُخالِطْ القُلُوب[9]؛
وكَمْ مِن دارِسِينَ للدِّينِ وقُلوبُهم عنهُ بعيد؟…وهل آفةُ الدِّينِ إلا الذين يَدْرُسُونَهُ دِراسةً ولا يأخُذُونَهُ عَقيدةً؟!"[10]


ـــــــــــــــــــــــ

[1] العنكبوت 49.
[2] يوسف 86.
[3] رواه البخاريُّ في كتاب (الأذان) باب (إذا بكى الإمام في الصلاة). فتح الباري بشرح صحيح البخاري. لابن حجر 2/441.
[4] الجمعة 2.
[5] مريم 58
[6] تفسير القرآن العظيم 3/171.
[7] رواه البخاري ومسلم.
[8] رواه البخاري ومسلم.
[9] وما أحسنَ التعبير عن ذلك في حديث هرقل الطويل: (وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب)! وقد ختم به البخاري كتاب بدء الوحي.
[10] في ظلال القرآن 9/1387

.أسأل الله تعالى أن ينفعنا بالقرآن العظيم
وأن يشرح به صدورنا
وينور به قلوبنا
وأن يجعلنا ممن يعملون بأحكامه
فيحلون حلاله ويحرمون حرامه
ويكون حجة لنا لا علينا

آآآآآآآمين اللهم اجعل القران نور قلبي وبصري وعقلي .. وجعلا ممن يتلونه انى الليل واطراف النهار ولاتجعلنا ممن يهجرون القران ..
سلمتي ياالغلا على طرحك المميز الذي يوقض القلوب والعقول لتهتدي وتذكرها برب العالمين ….
جزاكي الله خير ….

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.