عاش في قرية من قرى بلدنا الحبيب, وتعلم في مدارسه, ونال شهادته الجامعية قبل أن يسافر لأحد البلاد الأوروبية ليعمل هناك.
تزوج ورزق بالأولاد والبنات. واستقر في ذلك البلد الأوروبي وتعلم لغته, بل وبعد سنوات حصل على جنسيته هو وزوجته وأولاده, وأصبح وفقاً للأوراق الرسمية مواطن أوروبي.
كان يأتي لزيارة أهله كل سنة أو سنتين في عطلة الصيف, وكنت أرصد لديه حالة مرضية من حالات "الاستلاب" التي يقع ضحيتها كثيرون من إخواننا المغتربين, وغير المغتربين أيضاً!. ولكنها تتخذ عند بعض إخواننا المغتربين طابعاً مختلفاً بسبب (تمكّنهم) من مغادرة هذا المجتمع والتعامل معه من موقع السائح الأوروبي الراقي!
ومن أهم أعراض حالة الاستلاب المرضيّة هذه : احتقار كبير للمجتمع الأصلي, ورؤية متضخمة لمساوئه ونواقصه وعيوبه, بالإضافة إلى شعور غامر بالتعالي والتميز عن كل أفراد هذا المجتمع مهما كانت درجة ثقافتهم أو مستواهم المادي.
هذا بالإضافة إلى شعور مستمر بالقرف من كل شيء موجود في المجتمع من طعام أو شراب أو مواصلات أو أي شيء آخر. عدا عن وقوع المستلَب ضحية رغبة قوية تدفعه للتبرؤ من هذا المجتمع وإعلان انتسابه (بمناسبة وبدون مناسبة) للمجتمع البديل المتحضر!.
وصاحبنا وصل لمرحلة متقدمة من مرض الاستلاب هذا, فقد كان يجد (وبحكم جنسيته الأوروبية) أن له من الحق ما يخوله لرفع صوته على كل من حوله مهما كانوا (كونهم متخلفين طبعاً بسبب عيشهم في مجتمع متخلف وممارستهم لعاداته وتقاليده المتخلفة أيضاً), ورفع الصوت هذا كان يتم بمناسبة وبغير مناسبة: فإذا استيقظ في الصباح ووجد أمه تنظف البيت مثلاً, يرفع صوته ويقول متى ستتعلمون كيف تعيشون؟ لقد أمضيتِ عمرك في التنظيف تمتعي بحياتك!.
وإذا قُدمت له القهوة ردها باشمئزاز قائلاً ما هذا؟! لا أشرب هذا النوع من القهوة عندي نوع آخر أحضرته معي من بلدي.
وإذا دعاه أحد الأقارب لوليمة أقامها تكريماً له (كعادة أهل بلادنا الكرماء) برم شفته واعتذر بأشغاله الكثيرة, مبدياً استغرابه من هؤلاء البشر الذين يمضون أوقاتهم بالولائم والسهرات, متناسياً أنهم إنما يفعلون ذلك إكراماً له, ولعل أحدهم يكون قد استدان لإقامة هذه الوليمة كونه يرى أن إكرام هذا الضيف واجب عليه, إلا أن صاحبنا لا يرى ذلك, بل يعتبره سخافة لا يفهم الغرض منها.
وإذا ركب سيارة أجرة (وهو بالمناسبة لا يستخدم وسائل النقل العامة ولو على قطع رأسه, وبحسب تعبيره "ناقصه شرشحة!", وهو أيضاً لا يستأجر سيارة بدون سائق لزيادة الفخفخة, ولا ينسى طبعاً إبداء ملاحظاته التقدمية على زفت الشوارع وحركة المرور وطريقة قيادة السيارات عندنا), في سيارة الأجرة لا بد أن يعلم السائق أنه أوروبي, لأنه ببساطة يعرّف عن نفسه بأنه ليس من هنا, وأنه جاء في زيارة قصيرة لرؤية أهله ويذكر حوادث عن معاناته اليومية بسبب هذه الزيارة, وبعد حديث طويل يُخرج الأجرة ويسلمها للسائق وقد غمره شعور عظيم بالأناقة كون السائق قد وقع تحت استلاب من نوع آخر يصيب كثيرين عندنا فينظرون للمغتربين وخصوصاً المقيمين في أوروبا أو أمريكا نظرة احترام وتبجيل, بل إن إحساسهم بالنقص ينتقل للطرف الآخر داعماً فيه حالة التضخم الاستلابي التي يعاني منها أصلاً.
أخونا هذا يتعامل مع المجتمع وفق قوانينه (التقدمية), لا وفق قوانين وعادات هذا البلد, فإذا دخل ليشتري شيئاً من محل ما, يقلبه رأساً على عقب, وغالباً لا يعجبه أي شيء لأن البضاعة الأوروبية أرقى وأجمل وأرخص وأكثر عملية (حتى لو كان يشتري هناك من محلات التخفيضات) ويترك المحل خارجاً منه دون أن يشتري, وإذا صادف واشترى فلابد بعد عودته للبيت من أن يجد عيباً لم ينتبه له في المحل, وقتها يعطي الحاضرين محاضرة عن سوء التنفيذ وغش البائع ولكنه لا يبادر لاستبدال القطعة أو ترجيعها إلا بعد بضعة أيام (ذلك أنهم في أوروبا يقبلون باستعادة القطعة بعد أسبوعين كما قال) وإذا أُخبر أن هذا لا يسري عندنا, أرغى وأ**د وشتم وسب وأصر على إعادتها حتى لو اضطر (لطرق البائع بهدلة تنسيه حليب أمه!)
وحتى يكتمل دوره كسائح لا بد أن يزور بعض الأماكن السياحية, فلا بد من زيارة المطاعم والمواقع الأثرية, وطبعاً في كل زيارة لأي مكان لابد من التأفف وإظهار القرف, والسخرية والتكلم بصوت عال واستخدام كلمات أجنبية بلغة البلد الذي يقيم فيه حتى يسمعه المارة ويلتفتون ناظرين إلى هذا السائح الغاضب مسائلين أنفسهم عن سبب هياجه وعصبيته!
أخونا هذا يعاني كثيراً في زيارته من تخلف البشر الذين يتعامل معهم, فهم (حسب تعبيره) يأتون للسلام عليه دون موعد, وينسون أنفسهم فتطول زيارتهم, لذلك فمن حقه أن يتركهم ويدخل لإجراء مكالمة هاتفية طويلة أو مكالمة ماسنجيرية غير ضرورية (ولكنها هنا ضرورية بصراحة حتى يعرف الزائرون أنه لا يستغني عن الأنترنت أبداً وأن عليه التزامات لا يفهمونها!). وإذا اعترض أحد عليه بأن هذا لا يجوز ويجب مراعاة الضيوف, أخذ يشتم لاعناً تلك العادات المتخلفة التي مازلنا نعيش تحت وطئتها في بلدنا المتخلف هذا!.
حالة أخينا (الأوروبي) تتأزم سنة بعد سنة, ولا أدري حقيقة إلى أين ستصل, لكنني أعرف أنه في كل سنة ينهي زيارته بمعركة مفتوحة مع من حوله والذين يحاولون جاهدين مراعاة شعوره حتى لا يغضب كونه ضيف عندهم مطبقين قول الشاعر:
وَإِنّي لَعبدُ الضَيفِ مِن غَيرِ ذِلَّةٍ وَما فِيَّ إِلّا تِلكَ مِن شيمَةِ العَبدِ
(أكيد هذا شاعر متخلف هكذا سيقول صاحبنا)!