السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
نظرات في (بسم الله الرحمن الرحيم)
الحمد لله، والصلاة على سيد المرسلين، ومن اتَّبع هداه، وسلم كثيرًا.
أما بعد:
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}.
"بسم الله": هي كلمة بسيطة؛ بَيْدَ أنها عميقة، عميقة جدًّا.
هي سرُّ الحقيقة، هي مجلي سرِّ الوجود المهيب، بما يزخر به من كائناتٍ، وأشياءَ، وأحداث.
إنها كلمة تُترجِم أعظمَ الحقائق، وأعمقَ الأسرار في هذا الكون.
إنها كلمة الأدب الفاضل مع الحق – جل جلاله.
هي كلمة بسيطة؛ بيد أنَّها تحوي حقائقَ جليلةً، فأعظِمْ بها من كلمة!
لقد أتى على الإنسان حينٌ من الدهر لم يكُ شيئًا مذكورًا؛ بل كان هنالك، متواريًا في مجاهل العدم، وأطواء الفناء، حتى أدركتْه الرحمةُ الإلهيَّة، فخرج إلى فضاء الحرية الخالدة، وآفاقِ الفضيلة العميقة، فإذا هو قد تمثَّل بشرًا سويًّا.
تلك هي حقيقة الإنسان؛ مخلوقٌ ضعيف ضئيل، لا يُعَد شيئًا في جنب هذا العالم الفسيح؛ بل كهباءة متداعية سابحة في أعماق الوجود، تلك حقيقة لا مراء فيها.
وما معنى تلك العلاقة، وحقيقة تلك الوشيجة في مذهبي إلاَّ قولُك: "بسم الله" بمعناها العميق الدقيق.
وإنها لمسؤوليةٌ جسيمة، وأمانةٌ عظيمة، وحِملٌ ثقيل، تلك الكلمة التي كُلِّف الإنسان أن يقولها وهو يمارس نشاطاتِ حياته في هذا العالم، وقد أشفقتْ من حملِها السمواتُ والأرض والجبال، على أن جسامة تلك المسؤولية، وعظمةَ تلك الأمانة، وثِقَلَ ذلك الحمل – يصير هيِّنًا عندما يقول الإنسان صادقًا مخلصًا: "بسم الله" مدركًا لأبعادها ومراميها، ودلائلها وأسرارها.
عندما يقول الإنسان: "بسم الله"، تتجلَّى في أعماقه حقيقةُ الألوهية بمعناها المطلق المهيمن، بكل جلالها وكمالها وجمالها.
عندما يقول الإنسان: "بسم الله"، تتبيَّن في حسِّه حقيقةُ العبودية بمعناها الضعيف الضئيل، بكل قيمتها في ميزان الحقيقة الخالدة.
عندما يقول الإنسان: "بسم الله"، تتكشف في نفسه حقيقة الوجود الكبير بمعناها العميق، بكل أسرارها وآياتها وحقائقها.
وهكذا، حينما يصل الإنسان إلى هذا المستوى السامق، حينها فقط يستطيع – بإذن الله – الارتقاءَ إلى تلك الآفاقِ العلويَّة، والأبعاد الراقية، التي تتيحها حقيقة "بسم الله"، وإنها لآفاقٌ شاهقة، وأبعاد سامية جدًّا جدًّا، هنالك حيث تصير الحياة كلُّها لله وبالله، ومن ثم لا يجد الإنسان – وقد ارتقى هذا المرتقى الشاهق – بُدًّا من قول "بسم الله"، واستحضار حقائقها وإيحاءاتها في كلِّ خطوة يخطوها، وكل حركة يتحرَّكها في عالم الواقع، وهو يغذُّ السيرَ نحو الأبدية الخالدة، نحو الله – جل جلاله.
ذلك؛ لأن الحياة في مفهومها العميق صارتْ في حسِّه وضميره لحظاتٍ ذات بال وقيمة كبيرة في ميزان الحكمة الإلهية، ومن ثم يكون جليًّا في عقله وقلبه أنَّ الأمر الصغير – بل الذي يبدو صغيرًا بالنسبة إليه – كالأمر الكبير سواء، في تحديد مصيره الأبدي، لا لشيء إلاَّ لأنَّه يعرف أن كل أمرٍ لا يُبدأ فيه بـ"بسم الله" يكون ناقصًا أبترَ.
فهو عند الأكل يقول: "بسم الله"، وعند الشرب يقول "بسم الله".
وهو عند النوم يقول: "بسم الله"، وعند اليقظة يقول: "بسم الله".
وهو عند الفلح يقول: "بسم الله"، وعند الحصاد يقول: "بسم الله".
وهو عند الصلاة يقول: "بسم الله"، وعند مختلف العبادات يقول: "بسم الله".
وهو عند كلِّ خطوة، وعند كلِّ حركة يقول: "بسم الله".
ألاَ ما أعظمَ إنسانًا هذا شأنُه في الحياة وعلاقته مع الله – جل جلاله!
وهكذا، وقد بلغ الإنسان هذا المستوى – وأعظِمْ به من مستوى! – تنتفي في حسِّه وعقله وضميره – بشكل طبيعي – تلك الأكذوبةُ التي يقرِّرها الجاهليُّون بمختلف أنواع التقريرات، لا لشيء إلاَّ لإبعاد الإنسان عن مصدر الوجود؛ عن الله – تعالى – وإحداثِ قطيعة عميقة معه، إنها أكذوبةُ حاكميَّة القوانين الكونية، والتي قالوا: إنها قوانين صارمة ومطْلقة، لا تقبل النقضَ والتجاوز من أي أحد كان، ولو كان خالقها ومبدعها – سبحانه وتعالى!
من أجل ذلك؛ كانت كلمة "بسم الله" – كما قال بعضهم صادقًا – بالنسبة للإنسان، كمثل كلمة "كن" بالنسبة لله – تعالى – ذلك لأن الخالق – جل وعز – يقول للشيء: كن، فيكون بحكم طلاقة القدرة الإلهية، التي لا يحدها شيءٌ في هذا الوجود، والإنسان يقول: "بسم الله" وهو يتعامل مع الأشخاص، والأشياء، والأحداثِ المبثوثة في هذا الوجود، فإذا هي متوافقةٌ معه، مستجيبة له، كأنه حاكم عليها لا تجد من إطاعته بدًّا أو ردًّا، لا لشيء إلا لأنَّ الله – تعالى – قد قضى في الأزل أن يكون هذا الكون مسخَّرًا لهذا الكائنِ الضعيف الضئيل، المسمى "الإنسان".
وحسب هذا الإنسان البائس أنه يعيش في قلق، واضطراب، وفصامٍ نَكِد، وهو يتعامل مع الوجود من حوله، وحسبه ذلك الخوف الممض الذي يستشعره كلَّما نظر في أعماق الكون الهائل، وتأمَّلَ أبعاد المجهول؛ ذلك لأنه فقَدَ تلك الوشيجةَ التي تجمع بين مختلف الكائنات في هذا الوجود الكبير، وشيجة العبودية لله – تعالى – "الرحمن الرحيم".
ما أجملَها من كلمة! وما أعذبَه من معنى! وما أعمقَها من حقيقة!
حدَّثتْني نفسي مرَّة فقالت: ربما لا يوجد في أسماء الله – تعالى – الحسنى، وصفاته الكريمة، اسمان يترجمان حقيقةَ الألوهية وعلاقتها بالوجود – بكل ما يزخر به من أشخاص وأشياء، وأحداث ومشاهد – أعظمَ من هذين الاسمين "الرحمن الرحيم"، فصدَّقتُها.
وما لي لا أصدق وأقرُّها على عقيدتها، وأنا أرى آياتِ الرحمة الإلهية مبثوثةً في أجزاء الوجود، من الذرّة الصغيرة – بل أدنى – إلى الكون العظيم؛ بل لا توجد حركةٌ – صغيرة أو كبيرة – في هذا الوجود الكبير إلاَّ برحمة من الرحمن الرحيم؟!
إن الإنسان موجود في العالم لغاية معينة، تلك هي غاية العبودية، وهي مهمة جسيمة ولا شك، غيرَ أن الله – تعالى – وهو الرحمن الرحيم، قد سخر له ما في السموات والأرض؛ رحمة منه وفضلاً.
وما الإنسانُ في هذا الوجودِ الكبير الهائل – وهو المكلَّف من قِبَل الحق تعالى – بمهمة عظيمة، أبتْها السمواتُ والأرض والجبال، وأشفقن منها، لولا رحمةُ الله – تعالى – التي تحفُّه من كل جانب – إنه لا شيء، لا شيء.
لقد بدأتْ رحمة الله – تعالى – بهذا الكائن الضعيف الضئيل المسمَّى "الإنسان"، من قبل أن يُخلَق ويَدخل إلى الوجود؛ بل وقبل أن يخلق هذا الكون الفسيح العظيم، ذلك يوم قدَّر في الأزل الأول خلْقَ هذا العالم على هذه الصورة الموائمة لحياة الإنسان؛ كيما تتاحَ له فرصةُ القيام بمهمَّته خيرَ قيام.
إن نظرةً واحدة في آفاق السموات والأرض، وما تحمل من التوافقات العجيبة الدقيقة المعجزة – لَتوحي للعقل الإنساني بهذه الحقيقة الكبيرة؛ حقيقة أن الله – تعالى – بثَّ رحمته في تفاصيل بنية الكون؛ حتى يكون مجالاً موائمًا لمهمة الإنسان، يكون فيه قابلية الحياة في أحسن صورها، وأجمل أشكالها، وقابلية التعامل مع كلِّ ما يحيط به من حقائقه الكبرى.
ومن هنا كان من أعظم صور رحمة الله – تعالى – بالإنسان: صورةُ هذا الكون، تلك الصورة التي تنطوي على آيات الإبداع والجمال والتسخير، فلولا رحمةُ الله – تعالى – لكان هذا الكائن الإنساني غريبًا في هذا الكون، لا يستطيع أن يتقدم خطوةً واحدة إلى الأمام، وهو المكلَّف بعمارة الأرض، وإقامة حضارة إنسانيَّة فاضلة، قائمة على تعاليم المنهج الرباني.
ثم من صور رحمة الله – تعالى – بالإنسان: صورتُه الخِلْقية البديعة، تلك الصورة التي تتضمن آياتِ التكريم والتشريف الإلهي؛ فالإنسان خُلِقَ في أحسن تقويم، وأجمل تعديل، وأبدعِ صورة، فرحمةُ الله – تعالى – بالإنسان في صورة جسمه آيةٌ من آيات الله المترجمة للعناية الربانية بهذا الإنسان؛ فكلُّ جزء في بنية الجسم الإنساني خُلِق لأداء مهمة معينة في حركة الجسم وهو يمارس نشاطه في عالم الواقع، وربما لا داعي للتنبيه إلى صورة الإنسان النفسية؛ أعني: الكينونة البشرية، فتلك أعظم آية تتجلَّى فيها رحمة الله – تعالى – بهذا الإنسان، وحسبُك في فهم ذلك أنَّ هذا الروح البشري هو أمرٌ من أمر الله – تعالى – {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر: 29]، فهذه الإضافة تبيِّن لك تلك الحقيقة.
ثم من صور رحمة الله – تعالى – بالإنسان: المنهجُ الرباني الذي أنزله عليه، ذلك المنهج الذي مزج الله – تعالى – فيه الهدى والنور، والرحمة والرشاد؛ تيسيرًا للإنسان حتى يستطيع الاستقامة على منهج الحق وهو يسعى لعمارة الأرض؛ ارتقاء إلى الرضا الإلهي والدار الآخرة، تلك الدار التي تعدُّ الدارَ الحقيقية، والمنزلة النهائية للإنسان، ولولا رحمة الله – تعالى – للإنسان بهذا المنهج الرباني الفائق، لكان يخوض لُجَجَ الجاهلية، وكانت حياته مصابةً بالقلق والفوضى والاضطراب، ثم العذاب الأليم في الدار الآخرة، التي لا منجى من ورودها لكافة المخلوقات، وانظر إلى حياة الجاهلية قديمًا وحديثًا تَعِ هذه الحقيقةَ الكبيرة.
إنه فرق كبير – كبير جدًّا – بين إنسان يسعى في الأرض وهو مشدودٌ إلى السماء، يخوض غمار الأبدية في ذات الوقت الذي يتحرك حركتَه في هذه الحياة الدنيا، وبين إنسان قد فقدَ كلَّ أسباب الوجود الكريم في هذا العالم حين انقطعتْ علائقُه بالسماء.
والله أعلم.
دمتم برعاية الرحمن وحفظه