وإن مما وجه إليه الإسلام من الفضائل والآداب: حفظ اللسان عن اللغو وفضول الكلام، فلقد أكرم الله تعالى بني آدم وميزهم عن سائر الحيوان بنعمة العقل والبيان، وامتن سبحانه وتعالى بهذه النعمة على خلقه بقوله: ﴿الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الإِنسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)﴾ (الرحمن).لذا وجب علينا أن نشكر الله تعالى على هذه النعمة العظيمة، وشكرها بمراعاة ما يجب لله تعالى من حفظ عن الحرام، وصيانة عن الآثام، فإن اللسان من أعظم الجوارح أثرًا، وأشدها خطرًا، فإن استعمل فيما يُرضي الحق، وينفع الخلق، كان من أكبر أسباب السعادة والتوفيق في الدنيا والآخرة، وإن استعمل فيما يُغضب الله، ويضر العباد، ألحق بصاحبه أكبر الأوزار، وأعظم الأضرار.
لذا اهتم الإسلام بأمر اللسان اهتمامًا كبيرًا، فحث ربنا عز وجل في محكم تنزيله على حفظ اللسان ومجانبة الفحش والبذاء، فقال تعالى:
﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53)﴾ (الإسراء).
ووصف الله عز وجل ذوي الإيمان وأرباب التقى بالإعراض عن اللغو، فقال تعالى:
﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3)﴾ (المؤمنون).
كما قال تعالى:
﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55)﴾ (القصص).
فحفظ اللسان عن المآثم والحرام عنوان على استقامة الدين وكمال الإيمان، قال- صلى الله عليه وسلم-: "لا يستقيم إيمان عبد، حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه" رواه أحمد.
بل إن جميع الجوارح مرتبطة باللسان في الاستقامة والاعوجاج، قال- صلى الله عليه وسلم-:
"إذا أصبح ابن آدم، فإن الأعضاء كلها تكفِّر اللسان، تقول: اتق الله فينا، فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا" رواه الترمذي.
ومعنى تكفر اللسان أي: تذل له وتخضع.
وإن حفظ المرء للسانه، وقلة كلامه، عنوان أدبه، ورجحان عقله، كما قيل في الأثر: (إذا تم العقل نقص الكلام)، وقال بعض الحكماء: (كلام المرء بيان فضله، وترجمان عقله، فاقصره على الجميل، واقتصر منه على القليل).
وإن المسلم الواعي ليحمله عقله، ويدفعه إيمانه إلى الاعتناء بحسن اللفظ، وجميل المنطق، حين يرى المقام يدعو إلى الكلام، وإلا آثر الصمت طلبًا للسلامة من الإثم، عملاً بتوجيه النبي- صلى الله عليه وسلم- في قوله: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت" متفق عليه.
فحسن التعبير عما يجول في النفس أدب رفيع، وخلق كريم، وجه الله تعالى إليه أهل الديانات السابقة، وأخذ عليهم به العهد والميثاق، فقال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ (البقرة: من الآية 83).
فالقول الحسن أو الطيب يكون مع كل الناس، مع الأصدقاء، ويكون أيضًا مع الأعداء.
مع الأصدقاء حتى يكون سببًا لاستدامة الألفة والمودة، أما مع الأعداء، فإنه مما يذهب الحقد والغيظ من الصدور، ويطفئ الخصومات، كما قال سبحانه وتعالى:
﴿وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)﴾ (فصلت).
أيها القارئ الحبيب:
إن للسان آفاتٍ عظيمةً، وإن للثرثرة وفضول الكلام مساوئ كثيرةً، وقد قال عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- في التحذير من ذلك:
(من كثر كلامه، كثر سقطه، ومن كثر سقطه، قل حياؤه، ومن قل حياؤه، قل ورعه، ومن قل ورعه، مات قلبه).
وقال بعض السلف: (أطول الناس شقاءً وأعظمهم بلاءً، من ابتلى بلسان منطلق، وقلب منطبق).
لذا من الحزم والرشاد، اجتناب فضول الكلام، وحفظ اللسان عن كل ما لا ينفع، ولا يفيد في أمر دين أو دنيا، وبهذا وصى الرسول- صلى الله عليه وسلم- أمته وحثها عليه، حينما قال لمعاذ بن جبل- رضي الله عنه-: "كف عليك هذا"، وأشار- صلى الله عليه وسلم- إلى لسانه، فقال معاذ: يا رسول الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟! فقال- صلى الله عليه وسلم-: "ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم" رواه الترمذي.
كما روى عن سفيان الثقفي- رضي الله عنه- قال: قلت يا رسول الله ما أخوف ما تخاف علىَّ؟ قال: فأخذ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بلسان نفسه، ثم قال: "هذا" رواه الترمذي.
ولأجل هذا كان الصحابة- رضوان الله عليهم أجمعين- يخشون خطر اللسان، فكان أبو بكر- رضي الله عنه- يخرج لسانه ويقول: (هذا الذي أوردني شر الموارد).
وقال عبد الله ابن مسعود- رضي الله عنه-: (والله الذي لا إله غيره، ما على ظهر الأرض شيء أحوج إلى طول سجن من لسان).
فاللسان أيها الحبيب حبل مرخي في يد الشيطان، إن لم يلجمه بلجام التقوى، أما حين يطلق للسانه العنان، لينطق بكل ما يخطر له ببال، فإنه يوقعه في كبائر الإثم وعظيم الموبقات، من غيبة ونميمة، وكذب وافتراء، وتطاول على عباد الله، والتجني عليهم بالسخرية والاستهزاء، وكأنه لم يسمع قول الله تعالى: ﴿سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا﴾ (آل عمران: من الآية181).
﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)﴾ (ق).
روى البخاري أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "… وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم" رواه البخاري.
فاتقوا الله واحفظوا ألسنتكم وسائر جوارحكم. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)﴾ (الأحزاب).
منقول