يوم الطائف
لم يدعه الوحى يلتقط أنفاسه حين عاد إلى داره يرتجف على أثر لقاء من تلك اللقاءات التى تجددت بعد فترة الإنقطاع ، فلحق به سريعا ، يدعوه أن ينهض من تحت غطائه : " ياأيها المدثر " ، " قم فأنذر " ونهض صلى الله عليه وسلم من فوره .. فما عاد هناك تساؤل حول المهمة العظمى التى اختير لها ، والتى من أجلها جاءه الوحى أول أمس ، وأمس ، واليوم .. هو إذن رسول الله وخاتم النبيين .. هو الرسول الذى تنبأ به الأنبياء ، وتحدثت عنه الكتب ، وانتظره الزمان .
فلينهض إذن على بركة ربه مبشرا ونذيرا . وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا . ولقد نهض قائما .. ووجهه لله وجهه وقلبه حنيفا مسلما .
وراح يدعو على بصيرة ، ومعه ذلك الرصيد الباهر والنادر من الخلق والفضيلة وعظمة الشخصية واستقامتها .
وكلنا يعلم كيف واجهت قريش الدعوة فتلهث وراء النور تتحداه فى سعار وشراسة .
وذات عام وهو عام جدير بالوصف الذى يحمله ، إذ نعت بعام الحزن فقد الرسول صلى الله عليه وسلم عمه " أبا طالب " وزوجته الوفية السيدة " خديجة " رضى الله عنها .
فقد العم الذى ذاد عنه وضحى فى سبيله كما يذود وكما يضحى أفذاذ الرجال ، وفقد الزوجة التى أعطت من إيمانها وحنانها وجاهها أجزل عطاء ، والآن ، يخلو الجو لقريش أكثر من ذى قبل ، فتلاحق المصطفى المختار بسفاهنها الشرسة ، وهى لا تخجل من إقتراف الإهانات الصغيرة الهابطة وهاهى تغرى به من سفائها من يلقون عليه التراب والروث ، وتنحنى إبنته العظيمة " فاطمة " رضى الله عنها باكية تميط الأذى وتغسله ، وفى صبر المصطفين الأخيار يجفف دمعها بكفه الحانية ، ويقول لها : " لاتحزنى يابنية " فإن الله مانع أباك ..!!! "
وذات يوم راح يتلمس لدعوته مؤمنين جددا ، فشد رحاله إلى الطائف ..
وهناك بدأ بثلاثة من سادتها راجيا أن يصيروا ـ إذا هداهم الله لدينه ـ قدوة تجرى ثقيف وراءها وكان هؤلاء الثلاثة أخوة أشقاء أبنا عمرو بن عمير ولكنه فوجئ بقلوب أقسى من الحجر فسخروا من الحبيب عليه الصلاة والسلام ثم نادوا سفهاءهم وعبيدهم ليشيعوا الرسول بالسباب والحجارة يقذفون بها أكرم الخلق وإمام الهداة؟؟! ومضى .. تلاحقه مظاهرة السفهاء صاخبة نابحة ، حتى وجد بستانا فأوى إليه ، وراح يجفف الدم الذى يسيل من عقبيه اللتين أدمتهما حجارة السفهاء
هنالك أسند ظهره إلى إحدى شجيرات البستان ، وبسط كفيه إلى السماء مناجيا ربه وضارعا إليه .
" اللهم إليك أشكو ضعف قوتى وقلة حيلتى وهوانى على الناس ، يا أرحم الراحمين ، أنت رب المستضعفين ، وأنت ربى ، إلى من تكلنى .. إلى عدو يتجهمنى ؟ أم عدو ملكته أمرى .؟ إن لم يكن بك غضب على فلا أبالى .؟؟ ولكن عافيتك أوسع لى .. أعوذ بنور وجهك الكريم الذى أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بى غضبك ، أو يحل على سخطك ، لك العتبى حتى ترضى . ولاحول ولاقوة إلا بك …..! "
إنها معزوفة جميلة ، لروح جليل..! إنها إبتهالات رسول أوَّاب قدر الله حق قدره ، وأسلم وجهه وقلبه وكله لمشيئته ورضاه .
لم يكن ذلك الذى لقيه الرسول فى الطائف عقابا له ، ولا لفت نظر لخطأ اجترحه ، فهو عليه الصلاة والسلام لم يخرج من مكة إلى ثقيف إلا استمرارا لعملية التبليغ والنذارة التى أمر بها فتركه سبحانه وتعالى يعانى من هذا الموقف إذن ، لم يكن درسا من دروس النبوة ومشهدا من مشاهد القدوة التى تترك للأجيال عبر القرون المقبلة ذخرها ونهجها وهداها .
إنه درس لكل من سَيُقدَّر له أن يحمل راية الحق والهدى والإيمان ، كى يبذل بذل السماح كل ما يملك عزمه الوثيق من تضحيات ، وأن يحتمل فى صبر وشجاعة كل ما يطرح عليه من أوْصاب الآلام . وهو درس لهؤلاء جميعا … وهو عزاء صادق لهم عن كل ما يلقون من جحود وسخرية وهوان ويبصره من بعيد صاحبا البستان ، فيدعوان خادما لهما ويأمرانه أن يحمل إلى الرسول طبقا فيه قطف كثيرمن عنب ويذهب الغلام واسمه " عدّاس " وكان نصرانيا ، حاملا طبق العنب إلى رسول الله ، واضعا إياه بين يديه . ويغمره رسول الله بضياء من ابتسامتة الشاكرة ثم يبسط يمينه نحو قطف العنب قائلا " بسم الله "
باسم الله .. ! لقد أثارت هذه" البسملة" دهشة الغلام وعجبه ، وعلى الفور دار بينه وبين الرسول هذا الحوار ، قال عداس : " هذا كلام لا يقوله أهل هذه البلاد ". وقال الرسول :" فمن أى البلاد أنت ..؟ " قال عداس : " أنا نصرانى من أهل نينوى " ، قال الرسول : " من بلد الرجل الصالح ، يونس بن متى ..؟ قال عداس : " وما علمك بيونس بن متى ؟" قال الرسول : " إنه أخى كان نبيا وأنا نبى مثله " تقول الرواية التاريخية التى تروى لنا هذه الواقعة : فأكب عداس على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقبل رأسه ، ويديه ، وقدميه ..!! وأراد القدر الحكيم أن يجعل من هذا المشهد الفريد درسا آخر مجيدا من دروس يوم الطائف ، مقدما هذا النموذج البشرى الذى سيقع عليه إختيار السماء ليحمل رايتها فى الأرض ، لقد أراد الرسول حين نزل الطائف أن يوفر على نفسه أحقاد أشرافه وعليته حين يرونه لا يبدأ بهم ومعهم الزيارة والحديث . وفجأة .. من ركام هذا الضلال الساخر يخرج القدر خبأه العظيم غلاما فقيرا أجيرا ليس له جاه ، ولا ثراء ، ولا منصب .. يقرأ وجه الرسول فى لحظة ثم يستيقن صدقه ، ويعطيه كل قلبه ويقينه وحبه وإيمانه فى اللحظة التالية ..!
كان ظهوره فى تلك اللحظة إرهاصا بنوع البشر الذين يدخرهم الغيب لنصرة هذا الدين وهذا الرسول من البسطاء والشرفاء ، كذلك كان ظهوره ارهاصا بالمودة والنصرة اللتين سيظفر بها الإسلام من النصارى أتباع المسيح ": ..
" ….ولتجدن اقربهم مودة الذين امنوا الذين قالوا انا نصارى ذلك ان منهم قسيسين ورهبانا وانهم لايستكبرون " المائدة
وهكذا كان يوم الطائف درس قد حذقه سيد الأنام ، فمن ظلام اليأس الدامس ينبعث أمل .. ومن تحت وطأة الضلال و الإفك تنهض أرواح خيرة تعانق الحق والنور .
منقول بتصرف
من كتاب إسلاميات لخالد محمد خالد