بقلم : وعودة
هزال الروح(2):المسجون من سجن قلبه عن الله،والمأسور من أسره هواه، وقيدته ذنوبه وخطاياه :عن الفورية والحيوية والمسارعة والفعالية والإيجابية..،فهو في قلق وحيرة وتمزق وتشتت وفتور وسلبية وكسل..فلا عمل ولا أمل..بل يأس وقنوط وقعود وشلل..كالبازي الذي وجده ابن القيم في طريق الهجرتين.. مكسور الجناحين،منتف الريش..ملطخا بالوحل والطين:
فأصبح كالبازي المنتف ريشه…يرى حسرات كل ما طار طائر
وقد كان دهرا في الرياض منعما…على كل ما يهوى من الصيد قادر
إلى أن أصابته من الدهر نكبة…إذا هو مقصوص الجناحين حاسر
هزال الروح له أسباب وجذور نلخصها في النقاط الآتية:
يقول سيد الربانيين ابن عطاء الله السكندري: أصل كل معصية و غفلة وشهوة :الرضا عن النفس، و أصل كل طاعة و يقظة و عفة :عدم الرضا منك عنها…و لأن تصحب جاهلا لا يرضى عن نفسه خير لك من أن تصحب عالما يرضى عن نفسه، فأي علم لعالم يرضى عن نفسه، و أي جهل لجاهل لا يرضى عن نفسه.
حينما تمتلئ النفس رضا وإعجابا وكبرا وغرورا،وتخاطب غيرها من فوق كرسي العصمة،وتظن أنها وصلت إلى أعلى المراتب والقمم..تبدأ رحلتها نحو التراجع والسقوط..فتترك العمل والاجتهاد والمجاهدة ،وتميل إلى الفتور والجمود والخمود والرتابة،ويقل نشاطها ويندر إنتاجها وتفقد حيويتها وتذهب بركتها وتنطفئ أنوارها..بل ينتهي مبرر وجودها وسر بقائها…لهذا كان أصحاب الهمم القمم لا يرضون على أقوالهم وأعمالهم وأحوالهم..بل يتهمون أنفسهم بالتقصير مع أنهم أرباب قيام وصيام وذكر ومجاهدة:كانوا قليلا من الليل ما يهجون وبالأسحار هم يستغفرون..فهذا عطاء كان إذا هبت ريح وبرق ورعد.. قال هذا من أجلي يصيبكم.. لو مات عطاء لاستراح الناس..!:
أما الخيام فإنها كخيامهم…وأرى نساء الحي غير نسائها..!
عن عائشة أنها قالت: يا رسول الله الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة.. هو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر وهو يخاف الله عز وجل ؟
قال: لا يا بنت الصديق, ولكنه الذي يصلي ويصوم ويتصدق وهو يخاف الله عز وجل..؟!
ثانيا:كثرة الذنوب والمعاصي:
إذا تمرغت القلوب في أوحال المعاصي..ملئت الروح بالهموم والغموم والأحزان..وبدلت بالأنس وحشة،وبالعز ذلا،وبالقناعة حرصا،وبالقرب بعدا وطردا،وبالجمع شتاتا وتفرقة…!
يقول ابن القيم: المعاصي:تضعف سير القلب إلى الله والدار الآخرة ، أو تعوقه أو توقفه وتقطعه عن السير ، فلا تدعه يخطو إلى الله خطوة ، هذا إن لم ترده عن وجهته إلى ورائه ، فالذنب يحجب الواصل ، ويقطع السائر ، وينكس الطالب ، والقلب إنما يسير إلى الله بقوته ، فإذا مرض بالذنوب ضعفت تلك القوة التي تسيره ، فإن زالت بالكلية انقطع عن الله انقطاعا يبعد تداركه…!
رأيت الذنوب تميت القلوب…وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب…وخير لنفسك عصيانها
والعلامة ابن القيم ذو نفس نفيس طويل في تفصيل وتحليل آثار الذنوب في كتابه القيم الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي…ففيه ما يشفي الغليل ويداوي العليل..
ثالثا:سوء الأدب:
والله ما فاز من فاز إلا بحسن الأدب ولا سقط من سقط إلا بسوء الأدب..
قال ابن عطاء الله السكندري: من جهل المريد أن يسيء الأدب فتتأخر العقوبة عنه، فيقول لو كان هذا سوء أدب لقطع الإمداد و أوجب الإبعاد، فقد يقطع المدد عنه من حيث لا يشعر، و لو لم يكن إلا منع ، و قد يقام مقام البعد و هو لا يدري، و لو لم يكن إلا أن يخليك و ما تريد…!
سوء الأدب مع الله أو مع رسوله صلى الله عليه وسلم أو مع الدعاة…يؤدي إلى جفاف الروح وهزالها….بل يوجب الإبعاد ويقطع الإمداد…!
إياك والصالح الذي لا يحترم النظام:عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم قسم، أتاه ذو الخويصرة، وهو رجل من بني تميم، فقال: يا رسول الله اعدل، فقال: ويلك، ومن يعدل إذا لم أعدل، قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل
فقال عمر يا رسول الله، ائذن لي فيه فأضرب عنقه؟ فقال: دعه، فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية…أخرجه البخاري.
انظر أدب الصديق رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة: أن يتقدم بين يديه، فقال: ما كان ينبغي لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كيف أورثه مقامه، من الإمامة والقيادة والريادة؟ فكان ذلك التأخر إلى خلفه… وقد أومأ إليه أن: اثبت مكانك..سعيا إلى الأمام ….!!..
من لي بإنسان إذا أغضبته وجهلت كان الحلم رد جوابه
وإذا صبوت إلى المدام شربت من أخلاقه وسكرت من آدابه
وتراه يصغي للحديث بطرفه وبسمعه ولعله أدرى به.
رابعا:الاختلال في نسب الدواء:
لا أحد يسمو ويعلو فوق الربانية:
حينما تغلب بعض التنظيمات الجانب السياسي والفكري على جانب التزكية والعبادة والروحانية والربانية،يحدث اختلال في المنظومة المتناسقة المتناغمة الشمولية،فيقسو القلب، وتجف الروح وتهزل، وتكثر الفتن ،وتصنع الجيوب،ويسود الصراع على المناصب والمكاسب يقول الشيخ مصطفى مشهور فأي تقصير في مجال التربية يعتبر ضعفًا في الأساس ويعرض البناء إلي الانهيار إن عاجلاً أو آجلاً . كما أن عدم إعطاء التربية الاهتمام اللائق بها يترتب عليه هبوط مستوى الأفراد فلا يتخرج أفراد على مستوى المسئولية وتحمل أمانات العمل ، وبدلا من أن يخففوا الأعباء عن المسئولين إذا بهم يحدثون مشاكل وخلافات ويصيرون عبئا ثقيلا .. على حساب العمل والإنتاج للدعوة … والتربية لها أثرها الممتد مع الأيام وفي مواجهة الأحداث ومتطلبات العمل على طريق الدعوة ، سواء أثناء المحن أو في أوقات العافية ، .. ولعله من المفيد أن نوضح أن التربية لا يصح أن تقتصر علي المبتدئين دون المتقدمين ، ولكن يجب أن تستمر بصفة دائمة وعلى كل المستويات والأقدميات ، فما من أحد إلا ويحتاج إلي الزاد وإلى التذكير )
خامسا:الغفلة عن الدورة الروحية المركزة و الورد اليومي:من ذكر وقيام ومناجاة وتلاوة..
قال ابن عطاء الله لا تترك الذكر لعدم حضورك مع الله فيه، لأن غفلتك من وجود ذكره أشد من غفلتك في وجود ذكره، فعسى أن يرفعك من ذكر مع وجود غفلة إلى ذكر مع وجود يقظة، و من ذكر مع وجود يقظة إلى ذكر مع وجود حضور، و من ذكر مع وجود حضور إلى ذكر مع وجود غيبة عما سوى المذكور، و ما ذلك على الله بعزيز.)
سادسا:تحقير وتقزيم وتصغير شأن الربانية والأوراد والرقائق والمواعظ: ظاهرة تراها من بعض المربين والدعاة وهي انصرافهم عن مجالس الوعظ والرقائق بحجة الاكتفاء الذاتي ، وأن تربية المواعظ والرقائق قد تجاوزوها من زمن ، فالمواعظ وترقيق القلوب إنما هي للمبتدئين أو من هم على عتبة باب الدعوة!! ..أما هم فقد تخرَّجوا من جامعة الإيمان وتسلموا شهادات التفوق منها ، ولم يعد لهم في هذا الميدان مطمع..!وكثرة العمل الحركي والتنظيمي.. لا مجال معها لتكبيرة الإحرام والقضايا الصغيرة هذه…. تجده آخر القادمين للمسجد وأول الخارجين منه… فيجب أن يسرع لتفقد أمر الدعوة … وأما المكوث فهو صنيع المبتدئين وأبناء الصحوة!!! ..وما درى هؤلاء المساكين أنهم من الأسباب الرئيسية في تأخير النصر..وأن الجماعات تؤتى من قبلهم..وأن أبواب الفتن ستعصف بهم…؟!!
ولم ينظروا إلى اللوحة الفنية الساحرة البديعة نظرة شاملة متوازنة..بل نظروا إلى جزء وركزوا أنظارهم عليه..وتناسوا في غمرة التحرك والحركة:الحقيقة الصوفية..التي أكد عليها الإمام المجدد:حسن البنا…وجسدها:فقد كان يحافظ على القيام والأوراد في زحمة الأعمال والواجبات والأشغال..حتى لقي الله شهيدا..؟!
سابعا:ضعف وخفوت مشاعر الخشية من الله ومراقبته:فالروح في سيرها إلى الله-كما ذكر ابن القيم- بمثابة الطائر..فالمحبة رأسه،والخوف والرجاء جناحاه..فإذا قطع الرأس مات الطائر..وإذا كسر أحد الجناحين:صار عرضة لكل صائد وكاسر..فلابد من تقوية وتغذية مشاعر العبودية والخشية في القلب : التي هي الركن الركين وأس الأساس..وبدونها تهزل الروح وتذبل وتسقط..
ثامنا: سيطرة شهوات النفس على القلب وإتباع الهوى:
عندما تسيطر الشهوات على القلب :ينضب مخزون الربانية ويجف..وتزداد نيران المعاصي اشتعالا ولهيبا يأتي على الأخضر واليابس من بنيان الروح: تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميلة، تعس عبد الخميصة، إن أعطي رضي وإن منع غضب، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش…
تاسعا: الغفلة وعدم محاسبة النفس:
إذا تركت النفس بلا محاسبة ولا مشارطة ولا متابعة ولا معاقبة..تغفل وتضعف وتنهار..:والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني..
عاشرا:البعد عن بيئة الطاعة ومصاحبة أرباب الدنيا:لأن الحال يمتص من الحال:( وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً ، يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذ فُلَاناً خَلِيلاً ، لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولاً..)..فالبعد عن بيئة الطاعة ومصاحبة أهل الدنيا..يطفئ أنوار الروح ويصيبها بالظلمة ويجفف ماءها ورواءها..