ورد في السنّة الصحيحة أنّ الله، سبحانه وتعالى، أنزل التوراة على موسى، عليه السّلام.
ولكن اللافت للانتباه أنّ القرآن الكريم لم ينص صراحة على ذلك. ومعلوم أنّ الله تعالى أنزل الإنجيل على عيسى، عليه السلام، وقد نص القرآن الكريم على ذلك.
والمشهور أنّ الله تعالى قد أنزل ال**ور على داود، عليه السلام، فهل نص القرآن الكريم على ذلك ؟!
المستقرئ لآيات الله الكريمة يجد أنّ القرآن الكريم قد نص في موضعين فقط على أنّ الله تعالى آتى داود، عليه السلام، **وراً، ولم ينص على إيتائه « ال**ور » .
جاء في الآية «163 » من سورة النساء: « وآتينا داود **وراً » . وجاء في الآية «55 » من سورة الإسراء: « وآتينا داود **ورا ً» . أمّا قوله تعالى في سورة الأنبياء: « ولقد كتبنا في ال**ور من بعد الذكر أنّ الأرض يرثها عبادي الصالحون » .
فلا دليل على أنّ المقصود هو **ور داود، عليه السلام. ومن يرجع إلى كتب التفسير يلاحظ اختلاف المفسرين حول المقصود بال**ور في سورة الأنبياء.
قال تعالى في الآية «25 » من سورة فاطر: « وإن يكذبوك فقد كذّب الذين من قبلهم، جاءتهم رسلهم بالبينات وبالزُّبر وبالكتاب المنير » .
نستفيد من هذه الآية الكريمة أنّ الزُّبر، والتي هي جمع **ور، نزلت على الرسل.
ويستفاد أيضاً أنّ ال**ر تحمل معنى يختلف عن معنى الكتب.
وقد نص العلماء على أنّ ال**ور هو الكتاب، وأنّ الزُبُر هي الكتب. وهذا صحيح، لأن « الزُبُر » هي فعلاً كتب نزلت وحياً على الرسل، ولو كانت ال**ر لغةً ترادف في معناها الكتب لاستشكلنا قوله تعالى: « وبالزُّبر وبالكتاب المنير » .
من هنا قد يجدر بنا أن نبحث عن معنى ال**ر في القرآن الكريم.
جاء في الآية «53 » من سورة المؤمنين: « فتقطّعوا أمرهم بينهم زُبُرا، كل ح** بما لديهم فرحون » .
وجاء في الآية «96 » من سورة الكهف: « آتوني زُبَرَ الحديد… » . أي: قِطع الحديد. وهذا يعني أنّ الزَّبْر: هو التقطيع، وأنّ « الزُبرة » هي القطعة، وجمعها « زُبَر » .
وعليه يمكن أن نقول إنّ « ال**ور » هو كتاب اقتطع من غيره من الكتب، أي أنّ هناك احتمالاً أن يكون ال**ور جزءاً من كتاب ربّاني سبق نزوله، أو جزءاً من كتاب سينـزل، فكان الكلُّ كتابا، والجزءُ قطعةً أي: « **وراً » .
الخلاف بين أهل السنّة والجماعة، وبين المعتزلة، في القول بخلق القرآن مشهور، ومعلوم أنّ أهل السنّة والجماعة يرون أنّ القرآن الكريم هو من كلام الله تعالى، والكلام صفة المتكلم، والمتكلم أزلي غير مخلوق.
وعليه يكون القرآن أزليا غير مخلوق. وهذه مسألة يجدر بنا ألا نثيرها، في عصر تجاوز فيه الإنسان المسلم هذه الجدليّات، ولكن دفعنا إلى هذه الإشارة الرغبة في التذكير بأنّ القرآن الكريم هو في اللوح المحفوظ قبل نزوله على الرسول، صلى الله عليه وسلّم: « إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون …» .
وهذا يعني أنّ الأسبقية التاريخية في النزول لا تدل على الأسبقيّة في اللوح المحفوظ، وأنّ أسبقيّة النزول لا تعني أسبقية الكتابة.
وبهذا الفهم قد يزول بعض الإشكال في فهمنا لقوله تعالى من سورة الأنبياء: « ولقد كتبنا في الزّبور من بعد الذكر …» .
فمعلوم أنّ الذكر مُعرَّفا في القرآن الكريم لم يرد صريحا في أيٍّ من الكتب المنزّلة سوى القرآن الكريم.
جاء في الآيات: « 192-196 » من سورة الشعراء: « وإنّهُ لتنزيلُ ربّ العالمين، نزلَ به الروحُ الأمينُ، على قلبكَ لتكونَ من المُنذِرين، بلسانٍ عربيٍّ مبين، وإنّهُ لفي زُبُرِ الأولين » .
فكيف يكون القرآن الكريم في كتب الأولين ؟! هل المقصود أنّ الكتب السابقة قد بشّرت بنزول القرآن الكريم، أم أنّ المقصود هو معاني القرآن الكريم دون الألفاظ، أم أنّ المقصود المعاني والألفاظ جميعاً ؟
هذه مسألة خاض فيها العلماء، والذي قصدنا إليه من هذا المقال أن نلفت الانتباه إلى احتمال أن يكون قد تنـزّل بعض القرآن في كتب الرسل السابقين، فأوتيَ كل رسول جزءاً، أي **وراً، حتى جاء الوقت المعلوم لنزول القرآن الكريم كاملاً للبشرية جمعاء.
ويصبح الأمر مستحقاً للبحث عندما نقرأ الحديث الصحيح الوارد في البخاري: « خُفّف على داود القرآن، فكان يأمرُ بدوابّه فتُسرّج، فيقرأ القرآنَ من قبل أن تُسرّج دوابه …» .
والحديث الوارد في مسند أحمد: « ألا أُعلمكَ خير ثلاث سور أُنزلت في التوراة والإنجيل وال**ور والفرقان العظيم، قال: قلت بلى … » .
وقد جاء هذا المعنى في أكثر من حديث شريف.
خُتِمت سورة الأعلى بقوله تعالى: « إنّ هذا لفي الصُحُفِ الأولى، صُحُفِ إبراهيمَ وموسى » .
والأصل أن نأخذ بظاهر النص فنقول: إنّ ما ذُكر في السورة الكريمة كان قد تنزّل في صحف إبراهيم وموسى، عليهما السلام.
ويعزز هذا ما جاء في سورة النجم، ابتداء من الآية 36: « أم لم يُنبّأ بما في صُحفِ موسى، وإبراهيمَ الذي وفّى… » . وإذا أردتَ أن تعلم ما جاء في هذه الصحف فاقرأ الآيات الكريمة حتى نهاية السورة.