الرهاب ,الإجتماعي
الرُهاب الاجتماعي… الاضطراب النفسي الأكثر انتشاراً بين السعوديين
ربما تكون هذه المقالة عن هذا الاضطراب هي الخامسة؛ ربما أكثر أو أقل، لأن الرُهاب الإجتماعي، تقريباً بإجماع العاملين في مجال الصحة النفسية هو الاضطراب الأول بين السعوديين الذين يترددون على العيادات النفسية؛ سواءً الخاصة أو في المستشفيات. ولسنا نحن فقط الذين نعاني من هذا الاضطراب ولكن هناك آخرين في معظم أنحاء العالم يعانون بشدة من هذا المرض؛ ففي الولايات المتحدة يأتي اضطراب الرُهاب الاجتماعي في المرتبة الثالثة بين الاضطرابات النفسية بعد إدمان الكحول والاكتئاب، وفي دراسةٍ استرالية على المراهقين في سن الثامنة عشرة، وجد أن حوالي 11% من هؤلاء الشباب والفتيات يُعانين من اضطراب الرُهاب الإجتماعي.. وهناك دراساتٍ كثيرة حول هذا الاضطراب تُبيّن مدى انتشاره بين الشباب على وجه الخصوص.
الرُهاب الاجتماعي لم يكن اضطراباً مستقلاً، بل كان ضمن عدة أنواع من الرُهاب تحت عنوان الرُهاب المحدد أو الرُهاب البسيط؛ مثل رُهاب الظلام، رُهاب السفر بالطائرة، رُهاب الخوف من الأماكن المفتوحة..وهكذا، حتى جاء البروفسور أيزك ماركس، أستاذ الطب النفسي في معهد الطب النفسي في جامعة لندن، وقام بتقسيم اضطرابات الرُهاب عام 1969، وقال بأن الرُهاب الإجتماعي هو اضطراب منفصل لوحده عن بقية أنواع اضطرابات الرُهاب الأخرى، وأنه يجب ألا يوضع تحت اضطراب الخوف المحدد أو البسيط؛ فهناك الكثير من الخصائص التي تتنافى من أن يكون الرُهاب الإجتماعي تحت مظلة اضطراب الرُهاب البسيط أو المحدد. وظل أحد عشر عاماً لم يعترف بذلك العاملون في مجال الصحة النفسية حتى ظهر الدليل الأمريكي لتقسيم الأمراض العقلية والنفسية الطبعة الثالثة عام 1980 وفي هذا الدليل تم الاعتراف بأن الرُهاب الإجتماعي هو اضطراب مستقل بحد ذاته ومنفصل عن اضطرابات الهلع الأخرى.
محط نظر الآخرين
لب اضطراب الرُهاب الإجتماعي؛ هو أن يكون الشخص محط نظر الآخرين وتقييمهم.
لذلك فهو يتجنّب الزيارات الاجتماعية، ويتجنّب المحادثات مع الغرباء، وكذلك لا يستطيع مقابلة الأشخاص المهمين وأصحاب المناصب الرفيعة.
أكثر شيء يخشاه الذين يُعانون من الرُهاب الإجتماعي هو التحدّث أمام مجموعة، وهذا الأمر ينطبق في كل المجتمعات. ففي الولايات المتحدة الأمريكية بينت دراسة مسحية عن طريق الهاتف بأن 97% من الأمريكيين لا يستطيعون التحْدث أمام مجموعة من الناس، ويجدون ذلك هو أصعب المواقف الاجتماعية عليهم. الموقف الآخر الذي يشعر فيه الأشخاص الذين يُعانون من الرُهاب الاجتماعي هو مخاطبة أو مقابلة أشخاص في مناصب عُليا. فتجد الشخص الذي يُعاني من الرُهاب الإجتماعي يتجنب أن يقابل أي مسئول، حتى ولو كانت له حاجة ضرورية، فإنه يُفضّل أن يترك هذا المطلب حتى يتجنب مقابلة المسئولين طلباً لحاجته، وهي بذلك تعيق الموظف من الترقية أو من الوصول إلى مناصب هو أهلاً لها ولكن لأنه يُعاني من هذه الاضطراب لا يحصل على ما يستحق من ترقيات أو مناصب هو أحق بها من غيره، لكنه المرض.. الذي لا يعرف الكثيرون مدى تأثيره على حياة من يُعانون من هذا الاضطراب المؤلم.
أكثر شيء يخشاه هو التحدّث أمام مجموعة
ثمة أمور اجتماعية آخرى، يجد الشخص الذي يُعاني من الرُهاب الاجتماعي صعوبة بالغة في أن يقوم بها أمام الآخرين؛ مثل الأكل أمام الآخرين، لذلك تجده دائماً يعتذر عن المناسبات بأسباب واهية، وإذا لم يستطع فإنه يحضر ويشارك المجموعة الجلوس على المائدة ولكنه لا يأكل، خشية أن تتوقف لقمة الطعام في فيه. وكان لدّي شخص يُعاني فقط من الرُهاب الإجتماعي عند الأكل، فهو لا يستطيع أن يأكل أمام مجموعة من الناس، ويضطر للحضور لمناسبات، ويُشارك الجمع الالتفاف حول المائدة لكنه لا يستطيع أن يمد يده إلى أي طعامٍ أمامه، برغم أنه يكون أحياناً مشتهياً للأكل، لكن خوفه الشديد من أن تقف اللقمة في حلقة، أو أن يستفرغ أو أن يحصل له أي مشكلةٍ أمام هذا الجمع، يجعله يمتنع تماماً عن تناول أي طعام أمام المجاميع من الأقارب والغرباء. هذا السلوك الذي قد يستغربه البعض، ليس بالأمر الهّين على كثير من الأشخاص الذين يُعانون من الرُهاب الإجتماعي، وكثيراً ما يُعيقهم عن قبول الدعوات ويجعلهم معزولين عن أقاربهم وأصدقائهم.
الكتابة أمام الآخرين
ثمة مواقف اجتماعية أخرى، يشعر فيها الشخص بأنه تحت تأثير ومحط نظر الآخرين فلا يستطيع أن يقوم بهذا العمل؛ مثل الكتابة أمام الآخرين، وقد نتصور نحن بأن هذا الأمر في غاية البساطة، لكن بعض ممن يُعانون من الرُهاب الاجتماعي يجدون صعوبةً كبرى في أن يُمسكوا القلم ويكتبون أي شيء أمام الآخرين، وهنا تكمن صعوبة أداء الامتحانات لبعضٍ ممن يُعانون من هذا النوع من الرُهاب الاجتماعي، فإذا بقي المراقب بجانب التلميذ الممتحن فإن ذلك يُربكه ويجعله غير قادر على أن يؤدي الامتحان بصورةٍ جيدة، برغم أن الطالب قد يكون متفوقاً ولكن هذا الرُهاب يجعله غير قادر على أن يكتب، وربما أثار تساءل المراقب عن عدم قدرة التلميذ على الكتابة عندما يكون مراقب الامتحانات بالقرب من التلميذ ويُراقبه. هذا النوع من الرُهاب الإجتماعي يُسمى الرُهاب الاجتماعي المحدد. بمعنى أن الشخص لديه رُهاب إجتماعي فقط من مواقف معُينة، بعكس
يجد صعوبة بالغة في أن يقوم بها أمام الآخرين
الذي يُعاني من الرُهاب الإجتماعي العام، أي أنه يُعاني تقريباً من جميع المواقف الاجتماعية التي فيها تجمّعات ويخشى أن يكون محط أنظار أو تقييم من قِبل الآخرين، وبالتالي يحجم عن الذهاب إلى أي تجمُعات أو مناسبات إجتماعية قد تكون مهمة بالنسبة له من نواحٍ عديدة ولكن لا يستطيع الذهاب ويعيش في عزلةٍ تامة عن المجتمع.. دون أصدقاء أو تواصل مع أقارب أو زملاء في العمل.
من المرضى بالرُهاب الاجتماعي الذين مروّا عليّ، رجل تجاوز الخمسين من العمر، يعيش وحيداً في الرياض، لأن عائلته لا تقيم في الرياض. كان هذا الرجل طالباً متفوقاً في دراسته، وأبتُعث للخارج لتحضير شهادتي الماجستير والدكتوراه. عندما انتهى من شهادة الماجستير، شجعّه الملحق الثقافي على أن يواصل دراسة الدكتوراه حتى يعود إلى الوطن ويعمل أستاذاً في الجامعة. عندما سمع ذلك قطع دراسته لأنه لم يكن يستطيع أن يعمل أستاذاً، وعاد واختار وظيفةً ليس بها أي علاقة مع جمهور أو تعامل مع أشخاص كثيرين. عاش في الرياض وحيداً، لا يزور أحداً ولا يزوره أحد. كان يأكل وحيداً، حيث يذهب إلى المطعم ويطلب طعاماً يأخذه معه إلى المنزل. العزلة والوحدة جعلته يُدمن الكحول، خاصةً إذا كان هناك ضرورة من أن يُقابل أحداً. هذه العادة التي اعتادها سببت له الكثير من المشاكل والإحراج، حيث إنه كان يذهب أحياناً مضطراً إلى مناسبةٍ ولكن يكون قد شرب كثيراً مما يلفت انتباه الآخرين إلى أنه ثمل ويُصبح محل ازدراء من الآخرين الذين لا يعرفون أسباب تعاطيه للكحول. إن أحد مضاعفات الرُهاب الإجتماعي هو الإدمان على الكحول، حيث بينّت دراسة أجريت على أحد مراكز الإدمان في بريطانيا أن أكثر من 30% من المدمنين على الكحول كان ذلك بسبب الرُهاب الاجتماعي.