الأميرة فاطمة إسماعيل ومشروع جامعة القاهرة تأتي الأميرة فاطمة بنت الخديوي إسماعيل خديوي مصر في مقدمة النساء اللاتي بذلن الكثير من المال في إنشاء العمل الخيري في مجال التعليم والثقافة وتدعيمها، حيث كان لجهود تلك السيدة الفاضلة أثرها البالغ في إنشاء الجامعة المصرية، والتي عرفت فيما بعد باسم جامعة القاهرة، وكانت نشأة الجامعة المصرية في بادئ الأمر كجامعة أهلية بناء على دعوة في شكل نداء من الزعيم الوطني مصطفي كامل، والذي قام بنشر دعوته لإنشاء الجامعة في جريدة «اللواء»، ثم ما لبثت أن اجتمعت اللجنة التأسيسية لمشروع الجامعة المصرية في يوم 12 أكتوبر 1906 في منزل الزعيم الوطني سعد زغلول، وكانت تتألف من 27 رجلا من أعيان مصر ومن أهل الرأي والفكر فيها، من بينهم: قاسم أمين ومحمد فريد وعبد العزيز فهمي وعبد العزيز جاويش وحفني ناصف، وقرر المجتمعون انتخاب لجنة تحضيرية مؤلفة من سعد زغلول وكيلاً للرئيس، وقاسم أمين سكرتيرا للجنة، وحسن بك سعيد وكيل البنك الألماني الشرقي أمينا للصندوق، وعضوية نفر من المكتتبين، وتأجل انتخاب الرئيس العام للجلسة التالية، وقرر المجتمعون نشر الدعوة للمشروع في جميع الصحف المصرية، وأن تسمى هذه الجامعة بالجامعة المصرية.
وكانت الدار التى تقيم فيها الجامعة ليست ملكا لها، وكانت تنفق فى كل عام لإيجارها أموالا كثيرة، بلغت فى العام الواحد 400 جنيها، وكانت الجامعة فى حاجة إليها، لإنفاقها فى سبل أخرى، كالإرساليات والتعليم وغير ذلك، هذا بالإضافة إلى أن هذه الدار (وكان موقعها مقر الجامعة الأمريكية الآن) لا تفى بحاجاتها، ولا تصلح لأن تكون مقرا ثابتا لها، كما كان صاحبها "جناكليس" غير راغب فى استغلالها على سبيل الإيجار، وإنما كان يريد بيعها سواء للجامعة أو لغيرها، حتى لقد تدخل الأمير أحمد فؤاد، وطلب من "جناكليس" مد عقد الإيجار لأربع سنوات أخرى، فقبل الأخير على أن لا يؤجرها لهم بعد تلك المدة.
وعندما أطلع الدكتور/محمد علوى باشا الأميرة فاطمة (وكان طبيبا خاصا بأسرتها) على هذه الظروف التى تمر بها الجامعة، بالإضافة إلى اختلال ميزانية المشروع التى كانت تهدده بالتوقف إذا استمرت تلك الظروف دون معونة جادة تضمن باستمراره وتقدمه وتوطيد أركانه، أعلنت له أنها على استعداد لبذل ما لديها لأجل ذلك. فأوقفت ستة أفدنة خصتها لبناء دار جديدة للجامعة، هذا بخلاف 661 فدانا من أجود الأراضى الزراعية بمديرية الدقهلية، من ضمن 3357 فدانا خصصتها للبر والإحسان وجعلت للجامعة من صافى ريعها (ريع 3357 فدانا و14 قيراطا و14 سهما) 40% بعد خصم استحقاقات ومرتبات يبلغ مجموعها 5239 جنيها كل سنة، وقدر إيراد هذه الوقفية بميزانية الجامعة بمبلغ 4000 جنيها سنويا.
- تصميم أبنية الجامعة
وما كادت تزف هذه البشرى، حتى بادرت الجامعة بمخابرة مهندسين وطنيين مشهود لهم بالخبرة والبراعة، وهم صابر صبرى باشا، ومحمود فهمى بك، وغيرهما، ورجت منهم أن يضعوا رسما للجامعة، فواظبوا على العمل، تطوعا منهم لخدمة الجامعة، إلى أن أبرزوا رسما على طراز الجامعات الحديثة، عرض بعد ذلك على لجنة مؤلفة من حضرات مستر بويد كارتيز مفتش أول نظارة المعارف العمومية، والمستر بتس مدير البلديات بنظارة الداخلية، ومستر سيتون المهندس المعمارى، فوافقوا عليه، وتقرر المشروع فى بناء القسم الأول من هذا الرسم، وتبلغ مساحته نحو أربعة آلاف مترا، ويشتمل على مركز الإدارة العامة، ومجال تدريس العلوم الأدبية والقانونية، وغيرها من العلوم التى لا تحتاج إلى تمرينات عملية، وأن يكون على طراز عربى جميل.
أما الأقسام الأخرى، وعددها ستة، فستشرع الجامعة فى بنائها كلما مست الحاجة، وسمحت به مواردها، وهى قسم للعلوم الطبيعية، وآخر للعلوم الكيميائية، وثالث لعلم طبقات الأرض والمعادن، ورابع لعلم الحيوان والتشريح المقارن، وخامس لدراسة النباتات تلحق به حديقة خاصة بالنباتات الوطنية والأجنبية، وتشتمل كل قسم من هذه الأقسام على قاعات التدريس الخاصة بهذه العلوم، ومعامل للتجارب، وبكل منها مكتبة للكتب اللازمة لمراجعة المشتغلين به، وسادس لمكتبة الجامعة، مع قسم خاص بالمستندات والآثار الخطية، والمسكوكات، وبناء خاص لسكنى رئيس الجامعة (Recteur) وسكرتيرها العام.
الاحتفال بوضع حجر الأساس لمشروع الجامعة
وقد أجرت الجامعة احتفالا بوضع حجر الأساس لها فى يوم الاثنين الموافق 3 جمادى الأول 1322هـ / 31 مارس 1914م، فى الساعة الرابعة والنصف بعد الظهر، وذلك فى الأرض التى وهبتها دولة الأميرة فاطمة.
وتصدر الاحتفال سمو الخديوى عباس حلمى الثانى، ووضع الحجر الأساس بيده الكريمة، بحضور الأمراء والنظار، وفضيلة قاضى مصر، وشيخ الجامع الأزهر، وأكابر العلماء، وقناصل الدول، ورئيس وأعضاء الجمعية التشريعية، وذوى المقامات وأصحاب الصحف والأدباء فى مصر.
ولم يحضر هذا الاحتفال جناب اللورد كتشنر، ولا قائد جيش الاحتلال، كما أنهما لم يعتذرا.
ولقد كتب على الحجر الأساس هذه العبارة :
"الجامعة المصرية، الأميرة فاطمة بنت إسماعيل، سنة 1332 هجرية"، وأودع الحجر بطن الأرض، ومعه أصناف العملة المصرية المتداولة، ومجموعة من الجرائد التى صدرت فى يوم الاحتفال، ونسخة من محضر وضع الحجر الأساس، الذى توج بتوقيع الخديوى، وصاحبة الدولة والعصمة المحسنة الكبيرة الأميرة فاطمة، وتلاهما فى التوقيع دولة الأمير "أحمد فؤاد باشا" رئيس شرف الجامعة، فرئيس وأعضاء مجلس إدارتها.
- الأميرة فاطمة تتبرع بمجوهراتها
وأعلنت الأميرة فاطمة أن سائر تكاليف البناء سوف تتحملها كاملة والتى قدرت آنذاك بـ26 ألف جنيها، وذلك بعرض بعض جواهرها وحليها للبيع. وكانت قد أهدتها للمشروع، وأن على إدارة الجامعة أن تتولى بيعها وفقا لما يتراء لمصلحة الجامعة. فعندما عرضوها بالجامعة لم يتم التوفيق فى بيعها، فاتخذوا قرارا بأن يعرضوها للبيع خارج القطر المصرى وتشتمل هذه الجواهر على ما يأتى :
1-عقد من الزمرد، يشتمل على قطع، حول كل قطعة أحجار من الماس البرلنت أصله هدية من المرحوم السلطان عبد العزيز، إلى ساكن الجنان المغفور له إسماعيل باشا.
2-أربع قطع موروثة من ساكن الجنان المغفور له سعيد باشا، وهى :
أ) سوار من الماس البرلنت، تشتمل على جزء دائرى، بوسطه حجر، وزنه تقريبا 20 قيراطا، حوله 10 قطع كبيرة، مستديرة الشكل، والسلسلة التى تلتف حول المعصم، مركبة عليها 18 قطعة كبيرة، 56 قطعة أصغر منها حجما، وكلها مربعة الشكل.
ب) ريشة من الماس البرلنت على شكل قلب يخترقه سهم، مركب عليها حجارة مختلفة الحجم.
ج) عقد يشتمل على سلسلة ذهبية، تتدلى منها ثلاثة أحجار من الماس البرلنت، وزن الكبير منها تقريبا 20 قيراطا، والصغيران يقرب وزن كل منهما من 12 قيراطا.
د) خاتم مركب عليه فص هرمى من الماس يميل لونه إلى الزرقة.
وكانت الجامعة قد أوكلت للدكتور محمد علوى باشا (طبيب الأميرة فاطمة) عملية بيع المجوهرات، وتمكن محمد علوى باشا من بيعها بسعر مناسب جدا عاد على الجامعة بالنفع الكبير، فقد بلغ إجمالى بيعها حوالى 70000 جنيها مصريا على التقريب، وقد تم الاتفاق مع راغب الشراء والذى أناب عنه بنك الأنجلو إجيبشيان بمصر، ليتسلم الجواهر، ويدفع الثمن، ولكن هذا البنك أراد أن يتسلم الجواهر بغير تعيين نوعى لها، ولا تقدر ثمنها، فرفضت الجامعة التسليم بهذه الكيفية، إلى أن كتب للجامعة بما فيه رفع المسئولية عنها بمجرد التسليم للبنك، فيتم تسليم الجواهر وتسلم الثمن.
ومن فيض كرم الأميرة فاطمة إسماعيل أنها أعلنت تحملها كافة نفقات حفل وضع حجر الأساس، والذى كان سيحمل الجامعة نفقات كبيرة، وخاصة أن الخديوى عباس حلمى الثانى كان قد أعلن أنه سيحضر حفل الافتتاح هو والأمير أحمد فؤاد. وقد نشرت إدارة الجامعة بيانا فى جميع الجرائد اليومية المحلية تحت عنوان "نفقات الاحتفال بوضع حجر الأساس لدار الجامعة، وهذا نصه:
"أبت مكارم ربة الإحسان، صاحبة العصمة، ودولة الأميرة الجليلة فاطمة هانم أفندم، كريمة المغفور له إسماعيل باشا الخديو الأسبق، إلا أن تضيف أية جديدة من آيات فضلها، فأمرت بأن تكون جميع نفقات الحفلة، التى ستقام لوضع حجر الأساس لدار الجامعة، فى إرسال تذاكر الدعوة. ونظرا لتنازل الجناب العالى بوعد سموه بتشريف هذه الحفلة قد أوصت دولتها بمزيد العناية بترتيب الزينة، مما يليق بمقام سمو الأمير عزيز مصر. ومجلس إدارة الجامعة، لا يسعه تلقاء هذه المآثر العديدة إلا تقديم عبارات الشكر الجزيل، بلسان الأمة، على النعم الكثيرة، التى أغدقتها صاحبة هذه الأيادى البيض فى سبيل العلم، ويسأل الله أن يطيل حياتها، ويتولى مكافآتها عليها بالإحسان".
وبعد أن تم وضع أساس هذا البناء العلمى الضخم، عاد الخديوى الجناب العالى عباس حلمى الثانى والمدعون إلى سرادق الاحتفال، وهناك وقف حضرة زكى أفندى عكاشة، فأنشد بصوت رخيم قصيدة من بدائع الأمير الشعر العربى أحمد شوقى بك:
[list]
[/right]
كلمة الشعر فى حفلة الجامعة :
يا بارك الله فى عباس من ملك
وبارك الله فى عمات عباس
ولا يزال بيت إسماعيل مرتفعا
فرع أشم وأصل ثابت راس
وبارك الله فى أساس جامعـة
لولا الأميرة لم تصبح باساس
يا عمة التاج ما بالنيل من كرم
إن قيس بحركم الطامى بمقياس
لم تكسب التبر يمناه ولا قذفت
كرائم الدر والياقوت والماس
ولا بنى الدار بالعرفان زاهية
زهو السماء بمصباح ونبراس
كانت على الأمس أدراسا معالمها
واليوم تبدو قياما غير أدراس
كسوتها وهى أهل للذى لبست
كما كسا جنبات الكعبة الكاسى
شمائل كان اسماعيل معدنها
قد يخرج الفرع شبه الأصل للناس
ما الخيزران وما ابناها وما وهبها
وما زبيدة بنت الجود والباس
سكينة العلم فى الفردوس ضاحكة
إليك تخطر بين الورد والآس
تقول مصر من الزهراء مشرقة
كأن أيامها أيام أعراس
فما كصنعك صنع فى محاسنه
ولا لفضلك فى الأجيال من ناس
يابانى المجد وأبن المولعين به
أنشر ضياء الهدى من طى أرماس
وألق فى أرض منف أس جامعة
من نورها تهتدى الدنيا بنبراس
وانفض عن الشرق يأسا كاد يقتله
فلا حياة لأقوام مع اليأس
ترك النفوس بلا علم ولا أدب
ترك المريض بلا طب ولا آس
ملوك مصر كرام الدهر إن جمعوا
رأس، وبيتكم تاج على الرأس
سبحان من تبعث الولات قدرته
بغداد مصر وأنتم آل عباس
وقد كان لمعناها الرقيق من التأثير على مشاعر الحاضرين، ما أعجب وأطرب. وكان هذا الاحتفال الكبير من الأيام المشهودة فى تاريخ مصر العلمى، فقد ابتهجت له الأمة بأسرها، وعم السرور جميع أرجائها، وفى هذا دليل على ما للجامعة من المكانة السامية فى النفوس.
وجدير بالذكر أن الأميرة فاطمة الزهراء التي توفيت عام 1920 قد أقيم لها حفل تأبين كبير في يوم الجمعة 31 ديسمبر1920، ورأس الحفل حسين رشدي باشا رئيس الجامعة في ذلك الوقت، وألقي كلمة الأساتذة لويس كليمان وكلمة أساتذة كلية الآداب قدمها الدكتور أحمد ضيف، وقدم كلمة قسم العلوم الجنائية الدكتور عبد الحميد بدوي، أما كلمة طلاب الجامعة فقد قدمها أحمد فريد رفاعي، ومن المعروف أن مدخل كلية الآداب بجامعة القاهرة الآن ما يزال يحتضن لوحة رخامية مستطيلة مكتوب عليها «هذه من آثار حضرة صاحبة السمو الأميرة فاطمة بنت إسماعيل»، فرحم الله الأميرة فاطمة بنت إسماعيل إحدى الرموز في العمل الخيري في مجال التعليم والثقافة العربية بوجه عام، والمصرية بوجه خاص.